انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    الريال ينتظر هدية جيرونا لحسم لقب الدوري الإسباني أمام قادش    أول تعليق من رونالدو بعد التأهل لنهائي كأس الملك    جامعة صنعاء تثير السخرية بعد إعلانها إستقبال طلاب الجامعات الأمريكية مجانا (وثيقة)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    بن الوزير يدعم تولي أحد قادة التمرد الإخواني في منصب أمني كبير    وفي هوازن قوم غير أن بهم**داء اليماني اذا لم يغدروا خانوا    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    الخطوط الجوية اليمنية توضح تفاصيل أسعار التذاكر وتكشف عن خطط جديدة    الانتقالي يتراجع عن الانقلاب على الشرعية في عدن.. ويكشف عن قرار لعيدروس الزبيدي    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    مقتل واصابة 30 في حادث سير مروع بمحافظة عمران    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    احتجاجات "كهربائية" تُشعل نار الغضب في خورمكسر عدن: أهالي الحي يقطعون الطريق أمام المطار    العليمي: رجل المرحلة الاستثنائية .. حنكة سياسية وأمنية تُعوّل عليها لاستعادة الدولة    الكشف عن قضية الصحفي صالح الحنشي عقب تعرضه للمضايقات    الحوثيون يعلنون استعدادهم لدعم إيران في حرب إقليمية: تصعيد التوتر في المنطقة بعد هجمات على السفن    مخاوف الحوثيين من حرب دولية تدفعهم للقبول باتفاق هدنة مع الحكومة وواشنطن تريد هزيمتهم عسكرياً    غارسيا يتحدث عن مستقبله    مبلغ مالي كبير وحجة إلى بيت الله الحرام وسلاح شخصي.. ثاني تكريم للشاب البطل الذي أذهل الجميع باستقبال الرئيس العليمي في مارب    الرئيس الزُبيدي يعزي رئيس الإمارات بوفاة عمه    رئاسة الانتقالي تستعرض مستجدات الأوضاع المتصلة بالعملية السياسية والتصعيد المتواصل من قبل مليشيا الحوثي    مكتب التربية بالمهرة يعلن تعليق الدراسة غدا الخميس بسبب الحالة الجوية    مأرب ..ورشة عمل ل 20 شخصية من المؤثرين والفاعلين في ملف الطرقات المغلقة    عن حركة التاريخ وعمر الحضارات    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    بعد شهر من اختطافه.. مليشيا الحوثي تصفي مواطن وترمي جثته للشارع بالحديدة    رئيس الوزراء يؤكد الحرص على حل مشاكل العمال وإنصافهم وتخفيف معاناتهم    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    الذهب يهبط إلى أدنى مستوى في 4 أسابيع    الشيخ الزنداني يروي قصة أول تنظيم إسلامي بعد ثورة 26سبتمبر وجهوده العجيبة، وكيف تم حظره بقرار روسي؟!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    هربت من اليمن وفحصت في فرنسا.. بيع قطعة أثرية يمنية نادرة في الخارج وسط تجاهل حكومي    التعادل يحسم قمة البايرن ضد الريال فى دورى أبطال أوروبا    كأس خادم الحرمين الشريفين ... الهلال المنقوص يتخطى الاتحاد في معركة نارية    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صراع التحديث والتقليد في ((اليمن السعيد بجهله))!
نشر في عدن الغد يوم 16 - 02 - 2015


تمهيد:
في عام 1997مكتب الانثروبولوجي الفرنسي فرانك مراميية دراسة بعنوان (السمن: موروث تاريخي موجزاً) في كتاب (اليمن المعاصر، بإشراف: ريمي لوفور، فرانك مريية، ترجمة علي محمد زيد، دار الفرات، بيروت 2008م، جاء فيها ما يلي: ((كان للقطيعة مع النظام القديم والناتجة عن قيام نظام جمهوري في الشمال وفي الجنوب مختلفة على البنية الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين....) ص15، من هذا الأفق المنهجي يمكننا الأطلال على المشهد (اليمني) الراهن برمته العميقة المركبة والمتشابكة والمعقدة، وبما يجابهه من تحديات ورهانات حاضرة ومستقبلية.
وفرضيتنا في هذا البحث هي الزعم بأن ثمة اختلافات قابلة للقياس بين مسارين للتطور التاريخي والاجتماعي السياسي الاقتصادي الثقافي... الخ، في كلا من الجنوب والشمال في خبرة التحول والانتقال من النظام التقليدي البطريكي القديم إلى النظام الحديث اختلافات جوهرية وشكلية.
يستحيل التعرف على القضية الجنوبية وتفسير أسبابها وفهم نتائجها وتوقع حالاتها على نحو مسلم وأقرب للصواب بدون آخذها بالحسبان. وهذا هو مبعث اختيارنا لموضوع (القضية الجنوبية والمشكلة الشمالية، صراع التقليد والتحديث في اليمن) وهو محاولة للكشف عن الشروط الحقيقية للمشكلة الشمالية بما تنطوي علية من فروق نوعية مع القضية الجنوبية ومحدداتها المتعينة، إذ يصعب النظر إلى (الجمهورية اليمنية) ككتلة متجانسة أو ظاهرة اجتماعية نموذجية وممثلة (الوحدة) البحث والقياس.
ونقصد بالقضية الجنوبية هنا، ((دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتي تأسست عقب استقلال الجنوب من الاستعمار الانجليزي في 30 نوفمبر عام 1967م، وفي 12 ديسمبر 1967م حازت على عضوية جامعة الدول العربية، وفي 14 ديسمبر 1967م أصبحت العضو رقم (123) في منظمة الأمم المتحدة وهي الدولة التي فرضت سيادتها على ((23)) إمارة ومشيخة فضلاً عن(عدن) المستعمرة، بمساحة تقدر (336,869) كيلومتراً مربعاً تشتمل مجموعة من الجزر المتناثرة في حدودها المائية. وامتداد على الشريط الساحلي يقدر ب2000 كيلومتر طولي، هذة الدولة بشعبها ومؤسساتها وخبرتها وتاريخها، ومقدراتها وهويتها ورموزها ونظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، الريديكالي الساري الشمولي ذي التوجه الاشتراكي.
وتقصد بالمشكلة الشمالية: (الجمهورية العربية اليمنية) التي أعلنت في صنعاء في 26 سبتمبر 1962 عقب انقلاب عسكري ضد الإمام البدر بن أحمد، بحدودها مساحتها ونظام حكمها التقليدي الأبوي، الذي يعد النموذج الممثل للنظم التقليدية التي ضلت محكمة الانغلاق وصعبة الاختراق أمام تأثيرات الحداثة والتحديق حتى عهد قريب.
لقد كان الجنوب بفضل موقعة الجغرافي بمحاذاة البحر الأحمر والبحر العربي وخليج عدن والمحيط الهندي ولأسباب كثيرة أخرى سوف نتناولها آنفاً – على احتكاك واتصال وتواصل وتأثير مباشر وغير مباشر بقوى الحداثة والتحديث العالمية الغربية والشرقية الإقليمية والمحلية، وذلك منذ أربعة قرون من الزمن.
وقد تنوعت مصادر التأثير والتأثر بأنماط الحياة الحديثة عند الجنوبيين عبر الهجر والسفر إلى المستعمرات وعبر الاستعمار المباشر للبرتقاليين والانجليز. أو التبعية الأيدلوجية في زمن عقبة الحرب الباردة، للقوى الاشتراكية الصربية والروسية والأوروبية الشرقية والدراسة والبعثات الخارجية وغير ذلك كل هذه الخبرة المتراكمة من الاحتكاك الجنوبيين على مدى مئات السنين بأساليب وأنماط وطرق ورموز الحداثة، أفضى إلى نتائج مختلفة كلياً على البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وكل مستويات وأبعاد ومجالات الحياة المتعددة من حياة المجتمع الجنوبي، الذي زج به عام 1990م إلى (وحدة اندماجية) مع الشمال التقليدي.
الذي لم يخبر أو يألف العيش في نظام المؤسسة السياسية الوطنية الجامعة، بين الدولة لا التقليدية ولا الحديثة، بل ظل ولازال خاضع لهيمنة القوى والمؤسسات التقليدية الراسخة القبلية والطائفية والعسكرية القديمة.
وهذا هو ما أشار إليه المؤرخ الانجليزي أرنولد تويني في دراسته لطبيعة الصدام بين الاسلام والغرب، والذي يرى فيه التحدي الأبرز والأخطر والظاهرة للأهم في العصر الحديث،
وفي فحصة لطرق استجابة المجتمعات الإسلامية لهذا التحدي الأوروبي الحديث، أشار إلى وجود نزاعتين ((الزيلوتية) المتزمتة والسلفية التقليدية لمحافظة و الهيدورتيه) المستقبلية وذكر الأسرة المحمدية الزيدية في اليمن من بين النماذج الممثلة للنزعة السلفية، مستشهداً بواقعة بين الأمام يحيى حميد الدين وبين الموفود الانجليزي من عدن المستعمرة).
وربما كان النتروبولوجي الانجليزي بول دريش في دراسته الدولة والقبائل في تاريخ اليمن الحديث، والقبلية الديمقراطية في اليمن، والأئمة والقبائل، كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى، قد استطاع القبض على جذر المشكلة اليمنية الشمالية في منابعها الأصلية وأسبابها المتعينه ونتائجها المحتملة بما يجعلها مميزة ونوعية شكلاً ومضموناً عن القضية الجنوبية التي آخذت اليوم بحظ وبحضور واهتمام متزايد لدى مختلف الدوائر السياسية والثقافية المحلية والإقليمية العالمية بعدها التحدي الأبرز الذي يواجه (اليمن الراهن) وهذا هو معنى عنوان تقرير مجموعة الأزمات الدولية، الانهيار... قضية اليمن الجنوبي).
وفي ذات السياق جاءت دعوة الجمعية البريطانية اليمنية بالتعاون مع معهد لندن الشرق الأوسط (LMEI) لعقد مؤتمر دولي بعنوان ((اليمن: التحديات للمستقبل في جامعة لندن.SOAS في 16–17 نوفمبر 2012م. وقد كانت خلاصة ورقتنا المشاركة في اعمال المؤتمر التي للأسف الشديد لم نتمكن من حضور اعماله لأسباب سياسية جهوية معروفة هي الآتية:
ثمة ضباب كثيف واضطراب صاخب في عموم المشهد الكلي من تاريخنا الراهن في هذا الصعق المسمم بالبؤس والجريمة والحرب والعنف والفساد والخرافات والأوهام والسحر والأسطورة، بما يجعل الرؤية الواضحة الصافية الشفافة الممكنة شبه مستحيلة، وهذا هو شأن السياسية التي (جعلت الناس في جميع الأزمان، مجانين أو متوحشين أو خطرين، وبكلمة واحدة، فاقدي العقل) حسب (دوبريه)، والحق أن لكل انحراف عقلي سببه، ولا شيء يتم بلا سبب من الأسباب في عالم الفعل والانفعال عالم ما تحت فلك القمر، عالم الناس الأحياء الساعين لتحقيق مصالحهم وأهدافهم وأحلامهم وأوهامهم، والأسباب أربعة :ظاهرة ,وخفية ,قريبة ,وبعيدة.ومن المعروف أن السياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تفعل بهم الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ الحر والبرد والجدب والخصب والزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات وغيرها.
والحال كذلك فلا غرو أن نجد الناس يخبطون خبطاً عشوائياً حينما يحاولون تعريف وتحديد مصابهم السياسي الاجتماعي الثقافي الاقتصادي، فتشوش واضطراب الواقع ينجم عنه تشوش واضطراب الأفكار والتصورات، وهذا ما يفسر الحضور الطافح للهذيان الجماعي والشيوع الصاخب للجدل الانفعالي بشأن القضية الجنوبية والمشكلة الشمالية، بما يعمق سوء التفاهم ويعمي البصر والبصيرة ويطيل أمد الجهل والظلم والظلام، في هذا اليمن السعيد بجهله، وكما هو معلوم بأن أفضل السبل في حل المشكلات يكمن في القدرة على تشخيصها وفهم أسبابها والإحاطة العميقة بأبعادها وتفاعلاتها وعلاقاتها وتوقع مآلاتها .
وفي السياسة والحياة الاجتماعية لا يمكن فهم الناس وحقائقهم بما يقولون أو يعتقدون هم عن أنفسهم بل بما هم عليه في الواقع في عالم الممارسة الفعلية الحيوية السلوكية لحياتهم اليومية، أي الحكم على الناس بما يفعلونه بعد محو الأشباح الإيديولوجية والأوهام السحرية التي تبتعثها اللغة فينا لأن الممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل ما يفعله الناس حقاً وفعلاً فالكلمة كما يقول الفرنسي بول فين :" تعبر بوضوح عن معناها " وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد، فذلك هو ما تجهد القوى المهيمنة والمتسلطة والقابضة على السلطان والنفوذ في إخفائه على الدوام بما تثيره من زوابع ونقع كثيف يظلل أرض المعركة بالدخان والغبار، وهذه هي الوظيفة الجوهرية للايدولوجيا السياسية، إنها العمل الدءوب على إخفاء وحجب الواقع السياسي الفعلي في عالم الممارسة المتعينة ولعل هذا هو ما قصده ريجيس دوبريه بقوله: "طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي" إنها تخفيه، ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر، بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكة التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة وفضاءات متعددة وأسطح مختلفة ولكن هنا سكة حديد واحدة مهيأة لسير جميع القطارات، وربما كان علي عبدالله صالح الذي لم يقرأ كتاب (نقد العقل السياسي) ل دوبريه مدفوعاً بالغريزة السياسية حينما استدعى صورة القطار في خطابه (فاتهم القطار) وكأنه بذلك يؤكد واقع حال كل تسلطية سياسية ممكنة.
وقد أدرك كبار الفلاسفة والعلماء والمفكرون منذ أقدم العصور بصعوبة فهم الظاهرة السياسية وسبر أغوارها المتحفية المتميزة للظاهرة، وكان للرؤية المنهجية والمقاربات النقدية الظاهراتية، الذي اقترحها الفيلسوف الألماني أدمون تسل هو شأن خطير في حقل الدرس السياسي، إذا استطاعت النفاذ إلى جوهر البنية السياسية والكشف عن ثيماتها المتخفية وعناصرها المتشابكة، وذلك من خلال وعبر (الوعي القصد) المباشر لما يظهر للشعور الفوري في عالم الممارسة الفعلية المتعينة المشخصة، بعد تعليق الأحكام والقيم والرموز والنماذج والمعتقدات والأحلام والأفكار والأوهام الثقافية والإيديولوجية المسبقة، وذلك انطلاقاً من الاعتراف بأن هناك طبيعة لما هو سياسي طبيعة ذات قوانين وقواعد جائزة ومحتملة، يمكن التعرف عليها وفهمها، ومن تلك القواعد أن السياسية تقاس بالنتائج المتحققة في عالم الممارسة، وأن السلطة بعدها علاقات قوة وهيمنة ونفوذ هي محور ومرتكز العملية السياسية، وأن منطق السياسة لا يتحدد في (صحيح أم زائف) بل ممكن عمله أم غير ممكن؟ ممكن تحقيقه أم غير ممكن؟ وبهذا المعنى سميت السياسة بفن الممكن، وخلاصة الأمر في فهم منطق السياسة (يفعل المرء ما في وسعه فعله لا ما يريد أو يرغب فيه).
لست هنا بصدد تقديم درس في الشأن السياسي، بقدر ما يهمني أن ألفت نظر القارئ الكريم على أهمية التفريق بين السياسة من حيث هي شأن عام تهم وتعني بالقدر نفسه كل إنسان يعيش في المجتمع بما هو كائن سياسي بالضرورة، والسياسة من حيث هي ظاهرة تاريخية اجتماعية تهم وتشغل بال الفلاسفة والعلماء بعدّها موضوعاً علمياً جدير بالاهتمام والدراسة والنقد والتحليل.
وفي ضوء ذلك أدعوكم للنظر إلى المشهد السياسي الراهن كما يتنضد أمام أبصارنا هنا فيما يفترض أنه (الجمهورية اليمنية) التي يفترض أنها حصيلة اتحاد بين (دولتين) دولة الجنوب وسلطة الشمال، في 22مايو1990م ما الذي نراه هنا والآن في عاصمة يفترض أنها (عاصمة الوحدة) بعد 21 عاما من إعلانها وبعد 19 عاما من (ترسيخ الوحدة وتعميدها بالدم والحرب وهزيمة الانفصال المزعوم) بعد حرب شاملة اجتياح عسكري همجي شمالي للجنوب ودولته في 1994م، وأن أميز هنا بين الشمال السياسي العسكري المهيمن والشمال الاجتماعي الثقافي المهيمن عليه.
حتى نعرف ونفهم حقيقة القضية الجنوبية والمشكلة الشمالية على نحو أعمق وأوضح وأسلم وأقرب للفهم السليم لا بد لنا من تعليق الأحكام والأفكار والمعتقدات والأحلام والأوهام والشعارات والخطابات والهذيانات والتصورات والقيم والنماذج والأقوال والخطابات التي اكتسبناها طوال السنوات الماضية بالجبر والاختيار وبالتثقيف والتربية وعبر الوسائط الإعلامية والمؤسسات الإيديولوجية الدينية والحزبية والسياسية ... الخ.
تعالوا نضع ما تعارفنا على تسميته (بثورة) 1948م ضد الإمام وثورة 26 سبتمبر 1962م والجمهورية العربية اليمنية، في الشمال وثورة 14 أكتوبر 1963م وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية أو الديمقراطية الشعبية، والوحدة والديمقراطية، والأحزاب والاشتراكية والمعارضة والدستور والقانون والدولة والحرية والعدالة والجيش الوطني، والوطنية، والمواطنة والمجتمع المدني وثورة التغيير وثورة الشباب. ولكل ما يتصل بالكلمات والنماذج والرموز الثقافية والإيديولوجية الحديثة، أي كل ما يتصل بالحداثة والتحديث من مؤسسات وعلاقات وقيم وأفكار ورموز نضعها بين قوسين أو نعلقها كما يقترح صاحب المنهج الفينومولجي، وننساها وكأنها لم تكن وننظر إلى ما نراه يعتمل هنا والآن وأمام أبصارنا بقوة فاقعة وحضور عنيف وبروز جلي وواضح وشاخص للعين المجردة والحس البليد ماذا نرى يا ترى؟
ماذا يقول المشهد العام في صنعاء (العاصمة) وكيف يمكن قراءة ذلك النص المكتوب بأحرف من النار والحديد ومنحوتة على الأجساد والنفوس يلمسها المرء ويدركها ويشمها ويفهمها حتى وأن كان كفيف السمع والبصر، فما بال من يمتلك عينين وأذنين سليمتين.
صوبوا نظركم صوب (المركز) انظروا إلى صنعاء العاصمة وجولوا بنظركم جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً ووسطاً.
ما الذي يمكن لنا رؤيته هنا والآن وبعد نصف قرن من خرافة التحديث والحداثة والثورة والجمهورية والدولة والاشتراكية والوحدة والديمقراطية وغير ذلك من القيم الثقافية الحداثية. وهنا يلزمنا التمعن بالتعريف الانثربولوجي للثقافة (الثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء)، فما الذي بقي لنا من الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية فيما يتمخض الآن من نتائج وخلاصات وتجليات شديدة الوجود والحضور في المشهد الراهن.
إننا وبعد كل حساب لا نرى إلا السياسة وقد تعثرت عن كل حلتها الزائفة، نرى تلك القوى التقليدية الأموية البطريكية القديمة، الراسخة الجذور في أعماق التاريخ منذ آلاف السنين، الممثلة بالمؤسسة القبلية التقليدية الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية ممثلة في حاشد وقد تناسلت ثلاث قوى سياسية مهيمنة هي ( 1) عصابة الحكم الممثلة بالمشير علي صالح وعائلته حاشدي من سنحان ( 2) اللواء علي محسن الأحمر، حليف صالح ورفيق دربه وصنوه في القوه والسلطان والنفوذ وفرقته العسكرية المضاربة وهو حاشدي من سنحان ، والقوة الثالثة مشائخ حاشد صادق وأخوانه وهم شيوخ المشير واللواء. وهناك قوة رابعة هي جماعة الحوثي التي تنتمي تقليدياً إلى المؤسسة الإمامية الزيدية التليدة والتي هيمنت على الشمال منذ أكثر من ألف عام، تلك القوى التي تتصدر المشهد السياسي والعسكري وتلعب في الميدان بدون منافس تقريباً، هي المؤسسات الفاعلة القوية المهيمنة والقابضة على زمام القرار والحل والعقد والتبديل والتحويل والسلم والحرب، تلك القوى الأربع هي الأقوى والأعنف والأكثر قدرة على الفعل والمناورة والمفاوضة، هي أبرز النتائج التي تمخض عنها تاريخ (اليمن) الآن تبسط هيمنتها على الجنوب والشمال والشرق والغرب والوسط في حين أنها لا تمثل سياسياً إلا حيزاً ضئيلاً من الجغرافيا السياسية والمجتمع السياسي المفترض أنه (الجمهورية اليمنية)، وهناك امتدادات وفروع لتلك القوى فيما يسمى بالأحزاب السلطة والمعارضة وكانت الأحزاب التي يفترض أن تكون مؤسسات حديثة، قد ارتبطت عضوياً بتلك القوى التقليدية لا غرابة أن نجدها وقد انكمشت وتلاشت واختفت بلا حول ولا قوة، وحزب الإصلاح بكونه يستند على المؤسسة الدينية الإسلامية السنية يستمد قوته وحضوره من قوة المؤسسة القبلية التقليدية المهيمنة من حاشد وبكيل وغيرهن. ولا يخفى على أحد ما تمثله بعض القوى التقليدية القبلية من بكيل أمثال بيت الشايف وبيت سنان والحداء وحرف سفيان ونهم وأرحب وخولان وغيرها من القوى ذات الوزن السياسي التي تناوش هنا وهناك بين الكتل الأربع في سبيل القوة والسلطة والنفوذ والفوز بما يمكن الحصول عليه من المقدرات والدساميل المادية والرمزية وعناصر القوة المعروفة في الثقافة التقليدية الأرض والمال والسلاح والمكانة والهيبة والسلطان والنفوذ وغيرها، وهذا ينطبق على كل المشهد الاجتماعي والسياسي والثقافي السائد اليوم في الشمال في مستويات متعددة، في جميع المحافظات المهيمنة والمهيمن عليها، صنعاء وعمران وصعده والحديدة وإب وتعز وذمار والبيضاء والمحوت وحجه ومأرب... الخ.
إذ أن النخب الفاعلة والمهيمنة فيها هي تلك المنتمية والمجسدة للمؤسسة القبلية التقليدية، الممثلة بالمشائخ كالباشق ومحمد المنصور والمخلافي وكعلان وكهلان وهذا ما عبرت عنه شخصية الشيخ "طفاح" في مسلسل (همي همك) الرمضاني ونموذج الهيمنة التقليدية يختلف جذرياً من نموذج الهيمنة الحديثة، (نموذج المؤسسة الدستورية في الدولة، في النموذج التقليدي تقوم العلاقات الشخصية والقرابة والعرفية بدور الدعامة للسلطة السياسية، عبر ومن خلال مجموعة من المؤسسات الحيوية الراسخة البنى التاريخية الصلبة، وكما أن الوعي يشكل جوهر حياة الأفراد النفسانية، فكذلك تشكل المؤسسات والتمثيلات السياسية جوهر الحياة السياسية للجماعات، وليس وعي الناس هو الذي يحدد هذا الوعي عبر ومن خلال شبكة من الأفعال والعلاقات والقيم والرموز الظاهرة والخفية ونحن هنا إذ نقوم برصد الواقع ووصفه كما يظهر لنا لا نحكم عليه حكماً قيمياً سلبياً كان أم إيجابياً بقدر ما نهتم بتقرير المعطيات والوقائع المحسوسة الملموسة المتعينة في مشهد ينضح بما فيه ويدل على طبيعته وما هيته التاريخية الراهنة.
وفي سبيل أن نكون على بينة من الأمر لا بد لنا من نقد خطاب الهيمنة (ومفارقة المعتقد) الذي يجهد دائماً لإخفاء الحقيقة التاريخية للنتائج المتحصلة المتمثلة في انتصار وسيادة القوى التقليدية بنيات ومؤسسات وأفعال وعلاقات وممارسات ورموز وقيم بما لم يشهد له التاريخ مثيل وأهيمن بالنظر إلى ذلك وكأنه من طبائع الأشياء أو أمر بديهي طبيعي اعتيادي لا يستثير أي شك أو نقد أو تفسير، وهذا هو ما يفسر ذلك الظهور السافر للرموز والنماذج التقليدية، مشايخ القبائل ومشايخ الدين والعسكر للحديث بلا حرج عن (الثورة) وحمايتها كما لاحظنا الشيخ الزنداني والشيخ صادق الأحمر والسؤال هو هل القوة التي ظهرت فيها قبيلة حاشد في رؤوسها الأربعة عصابة الحكم الرسمية والفرقة الأولى مدرع والمشائخ والحوثية الإمامية وتفرعاتها ونماذجها ورموزها التقليدية من الأمور الطبيعية البديهية الاعتيادية أم هو وضع تاريخي ونتيجة لجملة من الأسباب والشروط والاستراتيجيات الواعية واللاواعية؟.
ولا يخفى على أحد أن هذه النتيجة الكارثية لانتصار التقليدي على الحديث، القبلي العشائري على المؤسسي العقلاني البروقراطي، لم يكن شأناً عرضياً أو صدفة بل هو استراتيجية مخططة ومدروسة لمواجهة احتمالات الحاضر والمستقبل بعناصر قوة تفاوضية لترسيخ الهيمنة التقليدية في أي استحقاقات ممكنة بأكثر من قوة وأكثر من طريقة!.
ألم تكن المؤسسة القبلية التقليدية في الجنوب حتى عهد قريب جداً قرابة أربعة عقود من الزمن من 1967م حتى الآن وهي لحظة قصيرة جداً في عمر الشعوب ومسار التاريخ العام، ألم تكن تلك المؤسسات التي تقدر بأكثر من 23 كيان سياسي سلطنات ومشيخات وإمارات، في وضع أفضل بما لا يقاس من حيث التنظيم والقوة والقدرات من حاشد ومثيلاتها المنتصرة اليوم في الشمال بل كانت بالقياس إلى بعض دول الخليج العربي المزدهرة اليوم بأفضل وأوسع بما لا تقاس، السلطنة العبدلية والدولة القعيطية أو الدولة الكثيرية والسلطة الفضلية والسلطتين العولقية والسلطنتين اليافعية والواحدي والحوشبي والضالع وغيرها.
فماذا كانت حاشد وبكيل أمام هذه الدويلات الوحدات السياسية الذائعة الصيت؟ وهل اختفاءها اليوم من المشهد الراهن من الأمور الطبيعية أم شأن تاريخي قابل للفهم والتفسير.
إن الغرض من هذه المقارنة العابرة يهدف إلى تسليط الضوء على طبيعة الفروق والاختلافات الجوهرية بين المسارين التاريخي للجنوب والشمال. ويكمن الاختلاف الأساس في أن الجنوب خبر وعرف وشهد تجربة الدولة الحديثة، الدولة المؤسسية الوطنية الجامعة وهي مؤسسة حديثة من رأسها حتى أخمص قدميها بل حداثية سارية رديكالية دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي أخضعت جميع القوى والمؤسسات التقليدية الجنوبية لهيمنتها واحتكرت كل مقومات ومقدرات وعناصر القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والإيديولوجية في جهازها المركزي الصارم التنظيم والبالغ القوة والنفوذ، بل أنها لم تقتصر على احتكار عناصر القوة والعنف والسيادة والقرار والحكم والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في جهاز (الحزب الشمولي الواحد) بل صادرت وأممت جميع الممكنات والمقدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية ومختلف المجالات المتعددة والمتنوعة التي تطورت عبر التاريخ الطويل لحياة الناس في الجنوب والتي تم اكتسابها عبر الكفاح المرير والصدام والجوار والاحتكاك المباشر وغير المباشر مع الهيمنة الكونيالية بما حملته من قيم ونماذج وخبرات حديثة وجديدة ومفيدة، تميزت بها عاصمة الجنوب عدن والمحميات على مختلف الصعد المدنية والرسمية والأهلية والخصوصية، وفي مختلف المجالات العامة والخاصة والمحلية.
هكذا في 1967م تنازل جميع سكان الجنوب اختياراً أو كرهاً عن كل كياناتهم وقدراتهم وثرواتهم وسلطاتهم ومؤسساتهم التقليدية والحديثة لصالح عقد اجتماعي جديد الممثل في دولتهم الوطنية الجمهورية الحديثة التي وضعوا فيها للأسف الشديد كل بيضهم وفراخهم ودفعوا ثمنها غالياً جداً من حياتهم ودمهم وعرقهم وكدهم وكفاحهم وأمنهم وأمانهم وصحتهم وغذاءهم وبكلمة مصالحهم الحيوية وحقوقهم الأساسية الضرورية حق الحياة والملكية والحرية والكرامة والرفاه والتنمية والسيادة ... الخ. هذه الدولة الجنوبية المسماة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) كانت في شكلها ومضمونها في ديكورها ونسيجها حديثة 120% بما جعلها تختلف اختلافاً كلياً عن ما كان عليه الحال فيما يسمى (الجمهورية العربية اليمنية) في الشمال الذي لم يخبر تجربة وسياق شكل ونمط التنظيم السياسي الاجتماعي المسمى (دولة) لا بمعناها التقليدي ولا بالمعنى الحديث ولا بأي معنى من المعاني.
من هذه البؤرة الساخنة والحاسمة يمكن لنا النظر والفهم لجوهر الاختلاف والتناقض بين (المشكلة الشمالية والقضية الجنوبية).
كتب الباحث الفرنسي (فرانك مرمييه) دراسة بعنوان (اليمن: موروث تاريخي مجزّأ) ما يلي:
" كان للقطيعة مع النظام القديم والناتجة عن قيام نظام جمهوري في الشمال وفي الجنوب نتائج مختلفة على البنية الاجتماعية والسياسية حتى من حيث الطبيعة المتناقضة للدولتين اليمنيتين... وبدا أن النظام الاشتراكي في الجنوب قد (حل) المشكلة القبلية ونجح في خلق دولة حديثة ومواطنة حقيقية متحررة من التعصب العشائري. وهكذا بدا متناقضاً تناقضاً قوياً مع (دولة) الشمال التي ظلت خاضعة لمشايخ القبائل الزيدية ... وتناقضت السيطرة على سكان الجنوب، وفقاً لنموذج بلدان الكتلة السوفيتية السابقة، تناقضاً قوياً مع الاستقلال الذاتي لرجال القبائل في الشمال ... ولم يؤد إنشاء جيش وطني في الشمال إلى وجود قوة معادلة لقوة المؤسسة القبلية لأن رجال القبائل والمشايخ اخترقوا الجيش نفسه..." ويضيف قائلاً: "تبدو الجمهورية اليمنية اليوم على المستوى السياسي استمراراً للجمهورية العربية اليمنية أكثر منها محاولة أصيلة لدمج نظامي صنعاء وعدن وقد شبهت هذه السيطرة للسلطة الشمالية على جميع مناطق البلاد ب(الاستعمار الداخلي) ينظر كتاب اليمن المعاصر ترجمة علي محمد زيد ص15".
حرصنا على إيراد هذا النص الذي يعود إلى عام 1997م بهدف تأصيل الفهم بشأن الأسباب والعلل الكامنة خلف النتائج التي نراها اليوم، والتي تم التخطيط المنهجي لها من قبل قوى الهيمنة التقليدية المتسلطة في الشمال منذ القدم والمحتلة للجنوب منذ عام 1990م بالمكر الدبلوماسي والغزو الهمجي منذ 1994م.أما وقد تجلت الحقائق الصارخة للعيان والأذهان وتكشف الأسرار والألغاز وأعترف أمراء الحرب ضد الجنوب بما فعلوه من جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي تعني في الشرعية الدولية تدمير المؤسسات الحيوية لجماعة أو لشعب أو حرمانه من الوجود الفعال وهذا جوهر ما تم فعله في الجنوب من خلال وعبر الحرب الغاشمة والتدمير والنهب الممنهج لكل (دولة) الشعب الجنوبي بجميع مؤسساتها الحديثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية .. إلخ , بحيث أننا اليوم وبعد 18 عاما من ارتكاب تلك الجريمة البشعة لم نجد للجنوب أثر يدل على وجوده المفترض فيما يسمى زوراً وبهتان ب(الجمهورية اليمنية) ، هل هناك شاهد أوضح أو برهان مما نراه هنا والآن من فداحة الجرم المرتكب ضد دولة وشعب الجنوب فإذا كانت القوى الفاعلة الحاضرة المتصارعة اليوم في (عاصمة الوحدة) هي شمالية الأصل والفصل والحسب والنسب والسياق والتاريخ، وهي أربعة أساسية عصابة الحكم ومشيخة حاشد وجيش الفرقة وجماعة الحوثي، ومثيلاتها وفروعها المؤسسية التقليدية الاجتماعية والسياسية والدينية والإيديولوجية المهيمنة فأين هي دولة الجنوب ومؤسساتها الحديثة الكثيرة، أهي فصح ملح ذاب وهل يعقل أن لا يمتلك الجنوبيين الذين ساهموا في (فخ الوحدة) بثلثين المساحة و 80% من الثروة، هل يعقل أن لا يمتلكون مؤسسة واحدة فاعلة تدل على وجودهم السياسي والاجتماعي والثقافي التاريخي (والوحدوي)؟.
هكذا يجب أن نفهم معنى القضية الجنوبية، إذ أن المسألة ليست مجرد حرب ولا استعمار (الجنوب) كما اعترف أحد فرقا الحرب، أو فتوى استحلال وإباحة الدم والأرض والعرض، كما أكد الفريق الآخر ولا نهب وسلب وتدمير وسرقة خيرات ومقدرات دولة شعب الجنوب كما أكد الفريق الثالث بل هي (جريمة إبادة جماعية) بكل ما تعنيه الكلمة، جريمة نراها اليوم ماثلة في المآل الذي وصل إليه الجنوب وأهله من عجز وغياب عن الوجود الفعال والفعل الجدير بالاعتبار، فليس للجنوب اليوم أي مؤسسة أو قوة فاعلة تلعب في الميدان السياسي، ولولا (ثورة) المقاومة السلمية التي انطلقت في 7/7/2007م من عدن المحتلة الممثلة في الحراك الجنوبي، والتي تكالبت ولا زالت تتكالب عليها جميع القوى التقليدية المهيمنة في الشمال لاختفاء صوت الجنوب كما تختفي على شاطئ البحر بيوت الرمال، فإذا كان الشمال المقهور قد غيب صوته طوال القرون من قبل الشمال القاهر والحاكم والمتسلط والمهيمن، فأين الجنوب إذن؟ بيد أن المثير للأسف الشديد أن بعض النخب المثقفة ممن يفترض أنها تمثل الثقافة الحديثة من الأحزاب والمنظمات والأفراد لا زالت حتى اللحظة تكشف عن سوء فهم معيب وغريب لحقيقية (القضية الجنوبية) وجوهر المشكلة الشمالية، مكتفية بمشاعر المؤمن بإزاء الجرائم البشعة والفضاعات الخطيرة، وحينما تحاول النظر إلى القضية من زاوية نظر أخلاقية وإيديولوجية فهي تمعن في تكريس حالة سوء التفاهم.
إننا إذ نكن عميق التقدير والاحترام لتلك الأصوات والأقلام الشمالية التي هبت للدفاع عن الجنوب والجنوبيين وعبرت عن مشاعر صادقة من التعاطف والمواساة والإحساس بما أصاب الجنوبيين من فاجعة كارثية منذ الاجتياح العسكري القبلي في 1994م، إلا أن غياب الفهم العميق والصحيح لجوهر القضية الجنوبية هو الغالب والسائد عند معظم الناس والأمر الذي أود إعادة التأكيد عليه هو (الدولة) الحديثة المركزية الشمولية هذه المؤسسة التي كانت لأسباب تطول شرحها هي كل رأس مال الشعب الجنوبي وحصيلة مساعيه، وهي بمثابة السلة الوحيدة التي وضع الجنوب فيها كل بيضه وفرخه، ليأتي الثعلب القادم من الشمال في ليلة سوداء ليخطفها ويلتهمها بما فيها، ليس من أجل (دولة الوحدة المزعومة) ولا من أجل نمو (دولة الشمال) الغائبة ولكن في سبيل تدمير وسحق كل ما يمت للدولة والنظام والدستور والقانون والمؤسسة الحديثة بصلة، تم ذلك في ظل صمت أو تواطؤ أو مباركة كثير من الشرائح والفئات المفترض أنها حديثة أو (مدنية) كرهاً لا اختياراً، كما تحاول تعريف نفسها والتي تسعى اليوم للبحث عن دولة النظام والقانون الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية، وهو الشعار الحلم والأمل الذي ترفعه جموع واسعة من جماهير (ثورة التغيير ) في تعز وصنعاء وعموم الساحات الثائرة التي أسلمت زمام أمرها لذات القوى القديمة المهيمنة التي أكلت الثورة والوحدة والجمهورية والديمقراطية والدولة الجنوبية وتضخمت حتى غدت اليوم وحش الغابة الرهيب، والنتيجة بعد كل حساب أن هناك أربع قوى تقليدية أساسية واجتماعية وإيديولوجية، تمتلك مؤسسات قوية وفاعله ونافذة تنتمي إلى ما قبل الدولة وتعبر وتمثل مصالح جماعة جغرافية صغيرة في الشمال وهناك قوة واحدة ووحيدة حديثة الاتجاه والهدف هي (شباب الثورة) في تعز والحديدة وصنعاء وذمار ولكنها بدون مؤسسة قادرة للدفاع عن نفسها وهي تمثل وتعبر عن مصالح أكثر من 90% من سكان الشمال وبعض الجنوب. وقوة واحدة ووحيدة يتم الإشارة إليها هي (الحراك الجنوبي) تعبر عن القضية الجنوبية ولكنها لم تتحول إلى مؤسسة سياسية قادرة على حماية ذاتها وإثبات قوتها ووجودها الفعلي، وهي تبحث عن دولتها الحديثة المخطوفة في واقع بالغ التعقيد وشديد الخطورة وشراسة القوى المعادية والمتربصة، وهذا ما يجب للحراك أن يعيه.
لكن ما هي حظوط هذه القوى وآمالها بتأسيس الدولة المدنية الحديثة؟
من المؤكد أن (الدولة) هي الهدف والغاية من كل ثورة سياسية حديثة، لكن ليس هناك ما هو أصعب من بناء وتأسيس (الدول) وحينما تكون قوى (الثورة) المهيمنة والفاعلة من المؤسسة التقليدية القبلية والعشائرية والدينية والطائفية كما هو الحال في (اليمن) فهذا لعمري من المفارقات التاريخية التي تعي قوة التمييز والحكم وتحبط الآمال والأماني.
وهذا الوضع المفارق هو الذي جعل المفكر الإنجليزي بول دريش يعبر عن دهشته واستغرابه في كتابة (الأئمة والقبائل: كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) بقوله أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبت بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور وهذا لا ينطبق على اليمن .. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة ... ومن المثير للدهشة في المعايير الإقليمية أن الرئيس (يقصد صالح) قد ذهب إلى حد التصريح أن اليمن بلد قبلي .. وفي جواب الرئيس على السؤال إلى أي حد قد نجحت اليمن في الانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة؟ (أجاب الرئيس بحزم) الدولة جزء لا يتجزأ من القبائل. وشعبنا اليمني هو مجموعة من القبائل فمدننا والريف كلها قبائل وكل أجهزة الدولة الرسمية والشعبية هي مشكلة من القبائل) ينظر كتاب اليمن كما يراه الآخر ص250.
ويختم درويش كتابه المهم بالقول (إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما، جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله)ص 250.
هذا معناه أن اليمن الشمالية أخفقت في تحويل فكرة (الجمهورية) إلى مؤسسة سياسية تسمى (دولة) الشعب الجمهور المواطنون، وهو شكل من أشكال الائتلاف الاجتماعي السياسي لا يمكن أن يوجد بدون دولة جامعة، وهذا هو ما أصاب (ثورة الشباب) اليمنية في صميمها لأنها تألفت من جمهور غير متجانس وربما كان علينا أن نجمل القول في هذه العجالة بالآتي:
لابد من الإقرار بأن القضية الجنوبية هي قضية نوعية ومختلفة عن كل ما عداها من المشكلات والقضايا الشمالية، وهي قضية الدولة الشعب الأرض الهوية التاريخ الثروة والمقدرات وكل رأس مال وقوة الجنوب الحديث التليد الذي تعرض إلى جريمة إبادة جماعية منذ 22 مايو 1990م وحتى الآن وهذا ما جعل مركز (مجموعة الأزمات الدولية) يعنون تقريره الصادر في 20 أكتوبر 2011م (نقطة الانهيار .. قضية اليمن الجنوبي) أكد فيه على عادلة ومشروعية القضية الجنوبية وخطورتها الحاسمة، ودعا جميع الأطراف المعنية إلى ضرورة الاعتراف علناً بمشروعيتها والالتزام (بإيجاد حل عادل لها عبر الحوار والمفاوضات).
أما المشكلة الشمالية المتمثلة في غياب مشروع الدولة الحديثة فلا يلوح في الأفق القريب إمكان حلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.