عندما يقترن العلم بحجة العقل و المنطق و يكون الطرح واقعياً غير قابل للمساومة و التردد الذي طالما أوجدته العاطفة ! نستطيع عندها فقط أن نجد الحل ! ذات ليلة من أواخر ليالي شهر مارس الفائت كنت على موعدٍ ساغته الصدفة و أنا أشاهد التلفاز ليستقر بي جهاز الريموت كنترول على "قناة الجزيرة" و هي تبث حلقة برنامجها الأسبوعي "بلاحدود"مع البروفيسور سيّار الجميل، رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية في الشرق الأوسط و أمريكا . و قيل رب صدفة خيراً من ألف ميعاد و لأن مهنية الجزيرة لا تترك الضيف يلفظ أنفاسه لسرعة الطرح و التنوع و طرق أطراف الحوار الساخن إلا أن سيّار الجميل كان متألقاً كعادته فلم تجدي براعة مذيع البرنامج في تباين و كثرة و تنوع الحوار و التحليل من أن تنال من براعة و ألمعية و فكر الرجل التي كانت أطروحاته تنم عن عقلية منطقية تخاطب العقل قل نظيرها في عالمنا العربي . كان أول محاور النقاش ربيع العرب ! الربيع العربي و رأيه عنه ! و بدأ الرجل يطرح و يعلل بأن الربيع العربي نتاج تراكمات سياسية خاطئة تحكمت بقرار و سلطة و حقوق شعوب العرب التي عانت فصولاً و أزمنة من الظلم و القهر و الإلقاء و الإقصاء !! عندها عرج المذيع بسيار الجميل ليسأله عن الوضع السياسي لمصر بعد الإنقلاب على الثورة التي أفرزها الربيع العربي و كان المذيع متشبثاً بأن يجعل البروفيسور سيّار الجميل ينتقد نظام السيسي طيلة الوقت ! إلا أن سيار الجميل كان فارساً لا يشق له غبار و منصفاً مغوار فماذا قال ؟ هو ليس انقلاباً إذا أردنا توصيفاً حقيقياً بمعنى أن نظام مرسي و الإخوان لم يكن نداً حقيقياً للعسكر؛ لأن العسكر لم يتركوا مصر منذ تنحي مبارك و كانوا يتحكمون بالمشهد السياسي منذ تولي مرسي الرئاسة ! يقاطعه المذيع : أنت إذاً لا تراه إنقلابا ً؟ الجميل معقباً : هو ليس إنقلاباً بمعنى إنقلاب على نظام سياسي كامل لديه سيطرة على شكل و مؤسسات الدولة الكاملة ! الإخوان كانوا ناعميين و مثاليين إلى أبعد الحدود مع العسكر و لم يخرجوا من عباءتهم ! كي يخرجوا مصر من عباءة العسكر !! إلا أنني أعتبره إنقلاباً على خيار المصريين في إقصاء أول رئيس مدني منتخب بعد صف ظباط العسكر! ، ثم أن الشرعية لم تكن كأدوات مع مرسي فالجيش و الإعلام و القضاء كانوا ضد مرسي و الإخوان منذ أول يوم ؛ لأسقاطه و إسقاط حلم الجماعة الوليد الذي تم وأده! فور ولادته !
عندها إستشاط مذيع البرنامج من البروفيسور و هو يصول و يجول و يحاول أن يحصل على تسجيل موقف من البرفسور سيار في أن ما حدث في مصر في الثالث من يوليو 2014 إنقلاباً على الشرعية ! ليسأله المذيع عن تدخلات نظام الإنقلابيين بمؤسسات الدولة كالقضاء و الإعلام ؟ ، الجميل معقباً : أوافقك أنها حقيقة إلى حدٍ ما نظراً لأن القضاء و الإعلام كانا بسلطة العسكر و هما من ساعدا في إسقاط مرسي و الإخوان ! المذيع مقتضباً : هل تقصد إسقاط الشرعية ! الجميل مبتسماً : أسمِها ما شئت كما يحلو لك و لكن دعني أكمل حديثي ، المذيع تفضل ، سيار الجميل متابعاً : إلا أن مصر لم تتوغل في حمام الدم و إنهيار الدولة كالنموذج السوري و الليبي و السبب يعود لوجود مؤسسات دولة حقيقية أوجدتها و رسختها حقبة حكم إبتدأت بحكم عائلة "محمد علي باشا" التي أسهمت في بناء هذه المؤسسات .
عندها شعرت بأن المذيع إستيأس في أن يسجل موقف يدعم توجه و سياسة القناة الداعم للإخوان ! ليدخل به لمحور تفاقم أزمات العرب في حاضرنا المعاصر ! و مما قاله البروفيسور الجميل كلاماً يستحق التوقف و التدقيق كثيراً ، الجميل معقباً : كيف تريد من أمة منهكة متعبة جوعاً و جهلاً و فقراً !متى ما أفرزت لنا المتغيرات و الكلام لسيّار الجميل متى ما أفرزت لنا أنظمة عادلة متعلمة متسلحة بسلاح العلم نستطيع أن نواجه الأزمات ! و على أي نظام حقيقي يسعى للنهوض بأمته عليه أن يهتم بعنصرين هامين التعليم و الصحة ، فأمتنا كجمتعات لا تتلقى خدمات صحية حقيقية مع تنامي ثالوث الجهل و الفقر و المرض ، و التعليم الذي يستند على أسس بحثية علمية حديثة ؛ لن يوجد نهضة و يتحقق النماء و الإزدهار .
و من معرض حديث البروفيسور سيّار الجميل عند سؤاله عن ما يدور في المنطقة و تحديداً في سوريا و العراق ؟ يجيب الرجل إجابة أدهشتني و أدهشت المذيع و كل من تابع الحلقة ، يجيب بكل عقلانية و منطق و إنصاف منقطع النظير قائلاً: أتحدى كل من يدعي فهم و إستيعاب ما يجري في المنطقة فأنا لا أستطيع الجزم بالمعرفة يقاطعه المذيع مندهشاً عدة مرات: ولكنك بررفيسور و لك باع طويل في دراسة السياسات الدولية ! و الجميل يقاطعه: لا أجزم حقيقة ما يدور لكن بالتأكيد هي سياسات و دول و صراع لكنه الجنون بعينه ! تدمير و قتل و مجرمون أمساخ يحيلون الحياة إلى أكوام من الرماد ، فمنذ حرب الخليج الثانية لم تستقر المنطقة إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلا أن جاء غزو و إحتلال العراق إلا أن ربيع العرب طرق أبواباً من قبل و مع هذا فأن من يدعي حقيقة فهم و إستيعاب ما يدور سيحتار لكن لك أن تسميه فوضى خلاقة شيطانية بل هو الجنون ؟
عندها إنتهت الحلقة .. ليتركنا الجميل البروفيسور سيّار الجميل، جميل الفكر و العقل و المنطق في دوامة من التفكير الذي أثاره بكل إنصاف و إنكار للذات ، فهو لا ينتمي لسلالة فكر مزبلة العنتريات .