مارست نقد الفكر الديني -خصوصاً في صورته المتطرفة- منذ سنوات بعيدة، إدراكاً مبكراً مني لخطورة المشروع السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، والذي يتمثل في حده الأدنى في الانقلاب على الدول العربية العلمانية وتحويلها إلى دول دينية تطبق الشريعة الإسلامية كما يفسرونها، سواء تم ذلك من طريق العنف المسلح أو طريق الممارسة الديموقراطية التي تكفل لهم الغالبية كما حدث في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير). أما في حده الأعلى، فيتمثل بإحياء نظام الخلافة الإسلامية وتوحيد البلاد الإسلامية كافة في مشارق الأرض ومغاربها تحت رئاسة خليفة واحد.
وقد مارست هذا النقد الجذري لهذه التوجهات المتطرفة التي لو تحققت لأدت إلى تفكك الدول العربية والتغيير القسري لهويتها الوطنية وتوجهاتها القومية. وبدأت هذا المشروع النقدي في منتصف التسعينات من القرن العشرين، وجمعت أبحاثي في هذا المجال في كتاب من جزأين عنوانه: «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادي والعشرين»، نشرته في العام 1996 المكتبة الأكاديمية بالقاهرة. وخصصت الجزء الثاني لأبحاثي النقدية للفكر الديني وجعلت عنوانه «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر». ورغم أن هذا الجزء ضم أبحاثاً ومقالات عدة في هذا المجال، إلا أن أهم ما فيه في الواقع هو تسجيل دقيق للمناظرة التي دارت بيني وبين الشيخ يوسف القرضاوي لأسابيع عدة على صفحات جريدة «الأهرام».
بدأت المناظرة، التي لم أخطط لها في الواقع، بمقالة نقدية عنوانها «الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ» (1/8/1994)، وسرعان ما رد عليها الشيخ القرضاوي بمقالة (7/8/1994) حاول فيها تفنيد آرائي حول أوهام إحياء نظام الخلافة الإسلامية، ورددت عليه بمقال عنوانه «الإمبراطورية والخليفة» (15/8/1994)، واختتم الشيخ القرضاوي المناظرة بمقال أخير له عنوانه «تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة».
كانت هذه المناظرة التي دارت بيني وبين الشيخ القرضاوي على صفحات «الأهرام»، والتي كانت حواراً فكرياً، مقدمة رصدي لتحول الفكر النظري لجماعة «الإخوان» إلى فكر إرهابي يقوم أساساً على تكفير غير المسلمين، بل وعلى تكفير المسلمين أنفسهم، خصوصاً الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية والجماهير المسلمة التي تستسلم لهم ولا تخرج عليهم. وقد تبنت هذا الفكر التكفيري جماعتان إرهابيتان مصريتان هما جماعة «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية»، اللتان قامتا بأعمال إرهابية عدة كان أبرزها واقعة ذبح السياح في مدينة الأقصر.
وبعد أن استطاعت الدولة استئصال شأفة الإرهاب بدأت بتشجيع من الأمن محاولات قادها زعماء هذه الجماعات الإرهابية في السجون لإجراء مراجعات لفكرهم المتطرف، وتتضمن اعتذارهم عن سلوكهم الإرهابي ونيتهم في التوبة والرغبة في أن يعودوا من جديد مواطنين صالحين. وأسفرت هذه الحركة عن صدور أكثر من خمسة وعشرين كتيباً من «المراجعات» أشرف عليها عدد من كبار قادة هذه الجماعات، وأدت في النهاية إلى الإفراج عن مئات من هؤلاء الإرهابيين وتأهليهم ليعودوا إلى المجتمع من جديد.
وقد اهتممت اهتماماً خاصاً بكتب المراجعات ودرستها بصورة منهجية دقيقة لأكشف عن مفردات النظرية التكفيرية التي استندوا إليها في سلوكهم الإرهابي.
(2)
أصول النظرية التكفيرية
نعتمد في عرض أصول النظرية التكفيرية على وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم» التي أصدرتها في العام 2007 جماعة «الجهاد» الإرهابية المصرية في إطار سلسلة المراجعات للفكر الإرهابي والتي ترتب عليها الإفراج عن أعضاء الجماعة.
يمكن القول إن مقدمة وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم تتضمن -على إيجازها- مجموعة من الأفكار الأساسية التي تشكل ما يمكن أن نطلق عليه الإطار المرجعي للوثيقة. ولعل الفكرة الجوهرية الأولى هي النظر إلى الخلافة الإسلامية نظرة مثالية تؤدي في النهاية إلى تقديسها والحلم باستعادتها. لكن أخطر ما في الوثيقة هو عرضها نظرية متكاملة في التكفير. وفي تقديرنا أن هذه النظرية هي الأساس الذي اعتمدت عليه الجماعات الإرهابية المتطرفة في تكفير الحكام وتكفير المجتمعات الإسلامية لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية، وتكفير غير المسلمين، بل وتكفير بعض المسلمين بشروط معينة.
ونظرية التكفير المتكاملة التي تعرضها الوثيقة لها مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة. المقدمات تتمثل في ما يسجله قلم «الدكتور فضل»، وهو الاسم الحركي لكاتب الوثيقة، في الصفحة الثانية من الوثيقة تحت عنوان «دين الإسلام»، حين يقول: «والإسلام ملزم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبي (ص) وإلى يوم القيامة». وبالتالي فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية وإلى يوم القيامة هم «أمة الدعوة» (المدعوون إلى اعتناق دين الإسلام)، فمن استجاب منهم لذلك فهم «أمة الإجابة».
وتسترسل الوثيقة فتقول «ومعنى إلزام دين الإسلام أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبي (ص) وإلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام، فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقض من نواقض الإسلام فهو هالك لا محالة إن مات على ذلك». واستند «الدكتور فضل» في هذا الحكم الخطير على آية قرآنية هي «ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» (آل عمران: 85).
وفي تقديري أنه ينبغي التحليل النقدي لهذا التأويل لخطورته في مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، واعتبارهم جميعاً هالكين وكفاراً لأنهم لم يعتنقوا الإسلام.
وبعد ذلك تقدم الوثيقة نظرية متكاملة في الكفر مبنية على مقولة مبدئية هي أن «الإسلام يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد النفس، فإنه ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك، والمخالفة درجات: فمن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر (وهي العصيان)، ومن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء كبيرة فهذا مرتكب الكبائر (وهو الفسوق)، ومن قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء عظيمة فقد وقع في الكفر». وفي تقديرنا أن هناك غموضاً في المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها النظرية، وهي «الصغائر» و «الكبائر» و «الأشياء العظيمة».
والواقع أن الذي يؤكد خطورة نظرية التكفير أن الوثيقة ترتب عليها نتائج مهمة في مواضع عدة، إذ تقول الوثيقة في مجال المحظورات الشرعية (ص 15) إن «تلقي أموال والاستعانة بأنظمة حكم في دول أخرى ليست بأفضل من بلدانهم لقتال أهل بلدهم، بما أوقعهم في فخ العمالة وحروب الوكالة، فيبدأ شأنه مجاهداً ويصير عميلاً مرتزقاً». وهذا في الواقع نقد ذاتي محمود.
غير أن الوثيقة تسترسل وتقول في مجال تعداد المحظورات الشرعية إن «اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسي لدى الدول الأجنبية (بلاد الكفار الأصليين) فيكون بذلك قد دخل تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره». وحين تقرر الوثيقة أن الذي يلجأ سياسياً لبلد أجنبي كافر، بحسب التعريف، فإنه يدخل نفسه تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره. ومازالت الوثيقة تتبنى التقسيمات القديمة بين «دار الإسلام» و «دار الحرب»، وكأنه لم يتغير شيء في العالم منذ قامت الدولة الإسلامية الأولى!
ومازالت الوثيقة للأسف الشديد تعيش في الماضي، والدليل أنها قررت أن الشريعة لم تبح لآحاد الرعية معاقبة عامة الناس أو إقامة الحدود عليهم (وهذه بديهية، لأنها من مهمات الدولة المعاصرة). غير أن الوثيقة –من باب الدقة العلمية– قررت أنه لا يستثني من ذلك إلا إقامة المسلم الحدود على عبيده. وأياً ما كان الأمر فيمكن القول إن ما سكتت عنه الوثيقة هو آلية التفكير التي أنتجت أفكارها وهي استخدام القياس الخطأ، وأهم من ذلك التأويل المنحرف للنص الديني.