كثير من الناس يعتقدون أنّ كل ما يلمع ذهب ، وأن كل باكية ثكلى .. وأنّ كل ما يُسمَع عن شخصٍ فهو يقين .. وأنّ كل مَن بدت نواجذه ، وظهر بياض أسنانه ، فهو فرِح مسرور .. وأنّ كل سراب يلوح في الأفق حقيقة للناظرين وليس خيالا يُرى، ولا وهما متخيلا . ولكنَّ الناس بعد فترة قد تطول وقد تقصر يكتشفون .. أنّ كثيرا مما كان يلمع ليس بذهب .. وأنّ النائحة التي يُذيب وهجُ نواحها القلب ليست كالثكلى .. وأنّ السراب الذي يُخيّلُ للعين وهما وليس حقيقة .. وأنّ كثيرا ممَّن بدت نواجذه وافترّ ثغرُه عن ابتسامة .
ينطبقُ عليه قولُ المتنبِي: إِذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزة فلا تظُنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ يبتسمُ
ومع الأسف لقد اعتاد كثير من الناس في زماننا أن يحكموا على الناس بظواهرِ الأمور ، أو بما يتقوّله الناس .. أو بما يدورُ على ألسنتهم في السر والعلن .
ثمة مثل يتداوله معظم الناس يقول : ( الكتاب يقرأ من عنوانه ) .
وبكل تأكيد من وضع هذا المثل لم يقصد الكتاب فقط .. بل قصد كل الأشياء التي نواجهها في الحياة ومنها الكتاب .. فكثيرة هي تلك الأمور التي لا ينبئ ظاهرها عما يضمره باطنها .. وكثيرة هي الأشياء التي تخدع مظاهرها البراقة عن معرفة حقيقتها .. فلا يحمل مظهرها شيئا مما هي عليه في الحقيقة .. وليس أمامنا سوى التأني في الحكم لمعرفة حقيقة من نتعامل معهم .. حتى لا نقع في محظور سوء الظن .. وحتى لا نتحمل النتائج السلبية التي قد تترتب على أيّ موقف مبني على سوء الظن .
إنّ حقائق الحياة لا تكتشف من مجرد النظرة الأولى .. بل لا بد من التعمق في معرفتها .. والتأكد من أنّ حكمنا عليها مبني على أساس التجربة ، والمعايشة والنظرة الثاقبة للأمور .
وبغير هذه الواقعية لا يمكن لنا أن نحكم على الناس حكما منصفا .. لأن سوء التقدير يمكن أن يصدر من أيّ إنسان إذا بني على التسرع وعدم التثبت من الأمور .. والنتيجة هي اتخاذ المواقف ذات النتائج السلبية .. لعدم قيامها على أسس غير قابلة للتشكيك أو الظنون أو الاحتمالات الأخرى .. التي قد لا يدركها الإنسان إلا بعد فوات الأوان .
والأمر هنا لا يختلف عن الكتاب الذي قد لا يكفي العنوان لمعرفة مضمونه .. فالمعنى الخاص في هذا المثل حاله كما هو حال المعنى العام .. لأنّ بعض الكتب قد تخدعك عناوينها .. فتظنّ أنها تقصد المعنى الذي رسخ في ذهنك عند الانطباع الأول بعد قراءة عنوانه .
ولكن ما أنْ تتصفحه حتى تكتشف أنّ فصوله تتناول مواضيع مختلفة تمام الاختلاف عما رسخ في ذهنك عنه .. وهذه هي نتيجة التسرع في الحكم على الأمور وعدم التأكد منها .
وكما قد يخدعنا مظهر الكتاب قد يخدعنا أيضا مظهر الإنسان .. في زمن أصبح فيه التزييف عملة سائدة تزييف عناوين الكتب .. وتزييف العلاقات بين الناس .. وتزييف المشاعر حيال كثير من أمور الحياة .. وهذا لا يعني حتما اللجوء إلى سوء الظن في كل الأمور .. بل إن من الحكمة تقديم حسن الظن حتى يثبت العكس .
وتجارب الحياة كفيلة بأن تعيد الأمور إلى نصابها عندما تنجلي عنها غيوم الاحتمالات والظنون .. لتظهر على حقيقتها سلبا أو إيجابا .. وهنا يكون اتخاذ القرار حيالها واقعيا ومضمون النتائج .. فقد يقرأ الكتاب من عنوانه لكن ليس في كل الحالات .
وأمامنا من تجارب الحياة ما يثبت أن الأمور ليست ذات لون واحد في كل الحالات .. بل إن أمرا واحدا قد تختلف النظرة إليه من شخص لآخر .. وهذا هو الامتحان الصعب أمام من يعلم شيئا وتغيب عنه أشياء ، قال الشاعر : قل للذي يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
ومهما كانت قدرة البشر على اكتشاف كنه الأشياء .. فلا يمكن استبعاد الوقوع في سوء التقدير إذا اقترن بالتسرع وسوء الظن .. مرة أخرى هل يقرأ الكتاب من عنوانه ؟ ... نعم قد يقرأ الكتاب من عنوانه ، ولكن ليس على الدوام !!!