كانت الساعة تقترب من الخامسة فجر يوم الأحد 19 أبريل وكانت مدينة خورمكسر التي عاشت ليلة أخرى عصيبة لا تمر في سماها دقيقة دون إن تدوي أنفجارات الاسلحة التي تقذف حمم هنا وهناك تزاحمها من شرفات المآذن صوت التكبيرات الجهادية التي يطلقها أئمة المساجد ودعواتهم للدفاع عن الأرض والعرض يتردد صداها في حواري وأزقة المدينة والشباب يهرعون وهم يدركون ان ساعة الصفر قد حانت، دوي الأنفجارات المتنوعة بتنوع الأسلحة وبمدى قربها وبعدها تنذر برحيل السكينة الى الأبد، وعبرات الأمهات وهمهمات الرجال وهم يخرجون من منافذ وابواب منازلهم ليمرون في الشوارع الفاضية فرادى وجماعات تسابقهم اقدامهم وكلما دنو نحو فرقهم واماكنهم ومواقعهم الى جانب زملائهم تضاعف هدير المدافع وفرقعات الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتناقصت رجفات الرهبة في صدورهم . وكان الشاب الصغير نحيل الجسد سالم علي مقطم الذي رسمت اشعت الشمس غتامة على وجهه الطفولي يتأوه بالقرب من منزله وهو يخرج من باب داره بمعية زميل له بعد ان أفلت من يد أمه التي أغرورقت عيناها وهي تعرف ان فلذة كبدها لن يرجع مهما حاولت معه، كان يضاحكها ويطمئنها ويطبع قبلات لا تنتهي على راسها، وهكذا جبل على معاملتها وكذلك معاملة (جدته لأمه) أو كما يسميها عندما كان طفلاً (ماما تانية) هكذا كان يوعدهن بالعودة وهو يعانقهن، ويوعدها ضاحكاً بأنه سيعود اليهن. كانت أمهُ الليلة الماضية تحاول ان توفر له أكبر قدر من الجو المناسب لكي ينام وزميله المقاتل (الضيف) قبيل منتصف الليل، وتكاد الليلة الأولى التي عاد فيها باكراً، لكي ينال قسطاً من الراحة ليومه الشاق، ولا تدري أمه..!، لا تدري انه على ميعاد مع الفجر، لبدء الهجوم الشامل على مليشيات الغزو (الحوفاشي) التي أعادت أحتلالها لكورنيش ساحل أبين وأعادت أحتلالها لمعسكر بدر وللصالة الرياضية ولأسطح كلية التربية المقابلة لحينا (حي جمال والمدينةالبيضاء) في الليلة قبل الماضية. خرج الشاب (سالم مقطم) مع تعالي التكبيرات كما خرج العشرات من زملائهم من رجال المقاومة الجنوبية في خورمكسر ليلتحقوا بزملائهم المرابطين في حي الأحمدي وحي مبنى جامعة عدن وحي ابي ذر الغفاري وحي السعادة وهم يترقبوا أنطلاقة ساعة الصفر للهجوم الشامل لإستعادة (الكورنيش) كانت سماء خورمكسر الملبدة بالغيوم المصحوبة بأدخنة الحرائق التي لازالت تشتعل من منطقة العريش ومن مطار عدن الدولي ومن حي (أكتوبر) الحي الجنوب للمدينة ومن معسكر بدر كما تشتعل أفائدة الأمهات المكلومة على أبنائهن . في ذلك اليوم الذي برز فيه إصرار أبطال المقاومة على الصمود في عناد وتحدي لشدة التمترس لقوات الغزاة الى حد لا تقبل عنده الا ان تقول ان ثمة ما يشير الى ان هذا اليوم لا تتكهن ساعاته البطيئة ما تخفية دقائقه القادمة، عدى ان نذيره يحوم كما يحوم آخر سرب للغربان يغادر مدينتنا البائسة، كانت كل جدران الشوارع والأزقة القريبة من الكورنيش قد رسمت على أوجهها خبث الغزاة، وخطت على مساحاتها نقوش تحكي للتاريخ صمود أبناء مدينة أمام ظلم العزاة، هذه المدينة تقاوم الظلم بشراسة وهي ايقونة للسعادة والمحبة والتجاور والسلام ، كل شيء في المدينة لن يعد كما كان الى ماقبل شهر مضى، فدكان حسين المغلق، لا يوجد ما يشير الا انه سيفتح قريبا، ومحلات الانترنت لم تعد اليها ذبذبات الدفئ السلكية واللا سلكية، وخيوط الكهربا صارت كحبال المشانق تتدلى فوق رؤوسنا، ومواسير المياة النازفة الجريحة ترسل صفيرها الصحراوي المرعب، الجبال البعيدة صارت بعيدة أكثر من سابق، ولكن، البحر هو البحر، ظل كما هو، وكأن شي لا يعنيه. أشتدت وتيرة المعركة وظهرت شراسة شباب المقاومة الجنوبية وهم يلقنون الغزاة دروسا في الاستبسال ودروسا في فنون القتال على الرغم من خبرتهم القليلة التي أكتسبوها خلال ما يقارب من 30 يوم منذ بداية الغزو على مدينتهم وخروجهم للدفاع عنها بشتى أنواع واساليب الدفاع والصمود . كانت شمس الصباح قد لاحت في الأفق أمام ناظريهم ومن خلف خطوط العدو لتبين لهم مواقع الغزاة وتكشف ظهور أبطال المقاومة في آنٍ معاً ، وفي جانب آخر من خط المواجهة هتف أحد المقاتلين "الله أكبر .. الله أكبر" فتعالت الصرخات والتكبيرات مع تفجير واشتعال عربة من عربات الغزاة وأخرى مع تدمير شرفة أو سطح لأحدى المباني التي يحتلها قناصة العدو. استشهد الشاب المقاوم البطل مروان السعدي كأول شهيد في معركة (الكورنيش) الحاسمة عند الساعة السادسة صباحا ً تقريبا، نزل خبر استشهاد (السعدي) كجرعة محفزة للأنتقام للشهيد وللشهداء السابقين، وقد شد أزرهم القائد (الغير متوج) محمد أمزربة وهو يهتف تكبير فيصرخوا بصوت واحد "الله أكبر .. الله أكبر" الى جنة الخلد أيها الشهيد البطل. لما تمر أكثر من ساعة على فجيعة استشهاد البطل مروان السعدي لتأتي فجيعة أخرى بأستشهد البطل القائد محمد أمزربة عند السابعة والنصف صباحاً، كانت آخر معارك الأسطورة (محمد أمزربة) التي طالما تغنى زملائه الشباب ببطولاته. كان الشهيد محمد أمزربة في ذلك اليوم 19 أبريل قد صلى الفجر بالمسجد القريب من خطوط التماس في حي الأحمدي، وقد أنهى نوبته الليلية في معارك الاستنزاف التي يخوضها مع زملائه كل ليلة وكان يفترض ان يذهب لينال قسطاً من الراحة، الا أنه أبى الا ان يكون في خطه الأولى حاملاً قاذفة الصواريخ المضادة للدروع (أر بي جي) ليسقي الغزاة من حممها قذيفتين، ثم حمل مدفعه الرشاش المعدل ليلقم برصاصاته الحارقة علوج الغزاة الأعداء (الحوافيش) حتى تعطل الرشاش (لصص) فعاد لحمل القاذف الصاروخي من جديد، وكان الأعداء قد رصدوه واثناء عودته ليسدد قذيفته الثالثة لم تمهله رصاصات قناصة الغزاة، فتمكنت منه بالإصابة المباشرة في جبهتة ليلحق بركب الشهداء الى جنة الخلد أن شاء الله. كان الشاب الأسمر النحيل الجسد (سالم مقطم) الذي شاهد بأم عينه أستشهاد قائده الشهيد محمد أمزربة فهرع الى حمل جثته مع صيحات زملائه الذين حاولوا ان يثنوه لكن، دون ان يلتفت اليهم سارع الى أحتضان جثة الشهيد القائد في الوقت الذي وصلت المدرعة لكي تحجب عنهم رصاصات القنص التي كانت تحصد عدد من الجرحى في صفوف المقاومة، حملوا جثة الشهيد الى المستشفى ومن ثم الى مسجد أبي ذر الغفاري وسط المدينة، وهناك كان والد الشهيد يقوم بمعاينة جثة ولده الشهيد القائد وكان المقاتل الصغير سالم مقطم يضع قبلاته على جبهة والد الشهيد وهو يقول له : " محمد أستشهد (ياجدو) وهو يقاتل بشرف وعزة - إن شاء الله - ان أكون انا بعده" . (أنتهى الجزء الأول من ملحمة الصمود التي سطرها شباب المقاومة في خورمكسر)