تشكلت الذات الجنوبية - المعاصرة - في ظروف بالغة التعقيد ، ومناخ مضطرب لم تترك الأحداث للفرد فرصة اللحاق بمدرسة الواقع ، لسيطرة العقل الجمعي على كل مناحي الحياة ، بعد أن ألقي دور الفرد بقرار سياسي لم يكن إمامه سوى الانتقال إلى العالم الأخر ، فهو خال من القيود ، يمكنه ممارسة نشاطه الفكري والعقلي والنفسي دون قيود فسقف هذا العالم السماء ، لجأ إليه الإنسان مكرها ، ولم يقتحم أسوار هذا العالم عن رضا وقناعة ، فأورث هذا المناخ فينا عادة ، تحولت مع مرور الزمن إلى طبع خفي ، أحكم هذا الطبع قبضته على تفكيرنا ، وغدا المتحكم في كل مايصدر عنا ، كان سببه الرئيس حرماننا من الحاق بمدرسة الواقع ، فلجئنا إلى التحليق في السماء ، فأورثنا التحليق الدائم التواء في العنق، حال بيننا وبين النظر إلى الأرض، فآثرنا التحليق في سماء الوهم ، على السعي على ثراء الواقع ، ولما احتجنا إلى إخفاء عقدة النقص هذه التي أورثنا إياها سلوكنا ، أحتجنا إلى إبتكار سلوكا أخر لنخفي تحته عورة كبرى ، فأسدلنا عليها عبائة طاؤوسية يزينها العجب والغرور ، والإعتداد الكاذب بالنفس ، والهروب من أسئلة الحاضر إلى أعماق الماضي القريب والبعيد ، فترانا، نكثر من الحديث عن الحضارة ، والنظام ، والقانون . مثل وقيم كبيرة لم نراها في واقع الناس ، ولاوجود لها سوى في قصص المورورث الشعبي فقط ، وإذا سألت عن الجنة الأرضية متى كانت ؟ وإين كانت ؟ فسيفزعون إلى الماضي قريبه، أوبعيدة ، لتعذر الاستشهاد بالحاضر ، وعندما تعود لتقابل النصوص التي كتبت عنها ، والأقوال التي قيلت فيها ، وشواهد الأحداث التي حصلت خلالها، تجدها قصة من وحي الخيال ، نسج أحدأثها الوهم ، وحاكت فصولها أماني الحرمان ، الحرمان الذي حرم على الناس كل شيئ حتى الانتفاع بالعقل ، فحرم الإنسان الجنوبي مبكرا من واقعية التفكير ، فكان أشبه بالطفل الذي حرم من لبان أمه ، فأورثه هزالة في الجسم ، وحسرة في النفس ، لازمته مابقي من حياته ، كان من أعراضها الكثيرة وصاية القرار الجمعي على تكوين الفرد خلال المراحل المتعاقبة ؛ فأورثته هذه الوصاية نفسية مأزومة ، وشخصية مهزوزة ، وعقلية بليدة ، حولت هذه العوامل - مجتمعة - هذه الذات البشرية إلى ذات غير واثقة من نفسها تبحث دائما عن وصي لها تعيش في كنفه علها تشعر بالأمان . فكان تاريخنا السياسي منعطفات من الفوضى العاطفية ، التي لاترى ، ولاتسمع ، ولاتعقل ، تسحق الجموع المنفلتة بنعالة كل من يقف في طريقها ، فمن خالفها عدو، و المتخلف عن ركبها عميل خائن . تسير إلى المجهول بمحض إرادتها ، مشاريعها أماني ، وخططها وعود ، وثمارها حلقات متسلسلة من الصبر ، لأن عملية هدم القديم وبناء الجديد على أنقاضه مستمرة منذ عقود خلت ، فهذه العملية أشبه بالبيوت التي يبنيها الصغار في موسم المطر ، يجهدون أنفسهم، مستمتعين بالجهد الذي يبذلون لبناء بيوتا طينة صغيرة حتى إذا ما أستوى البناء على أركانه قاموا بتهديمه بركلة عابرة وهم يضحكون عائدون إلى بيوتهم . تاريخنا محطات من العبث والفوضى ، نقاتل في سبيل الوهم ، ونموت في سبيل الوهم ، نترك فضاء الله الفسيح ، ونجتمع حول كوة صغيرة كي نلج منها جميعا وفي وقت واحد إلى عالمنا الوهمي ، لأننا لانجد أنفسنا إلا في زحام الصراع والفوضى . الوهم الذي سلبنا وطنا ، هو ذاته من أخذ الأباء و الأبناء إلى أجداث القبور ، وكل منا يودع الأخر وهو يقول :.وداعا يابني ، وداعا يا أخي، وداعا ياصديقي ، وداعا يا جاري ، وداعا لا لقاء بعده . سقطت جدران بيتي التي كانت تقيني برد الشتاء ، وتهاوى سقفه الذي كان يظلني لظى شمس الصيف ، وتدمرت معه مدرسة اطفالي ، وتهاوت مع جدرانها أحلامهم ، وحقهم في الحياة ، سطقت مآذنه مسجد الحي من عليائها ، التي كانت تلف الغيم حول رأسها كأنها عمامة سيد قوم أمتلأت نفسه أنفة وعزة ، ونهب الوهم جزءا من أغراضي ، والجزء الأخر قام بتهشيمه وتحطيمه نكاية بي لرفضي إياه ، فأراد بصنيعه هذا طمس ذكرياتي التي أرخت أشد لحظات الفرح والسرور التي شهدها عالمي الصغير ، حتى دفاتري وأقلامي ، أخر قلاعي التي أحتمي بها ، إذا ما حل الروع والفزع بساحتي ، فلم يبق إمامي سوى أن أخرج أندب حظي ، وأشق جيبي ، واخمش باظافري وجهي ، لقد سلبتني أيها الوهم كل شيئ ، اعد ابني من العالم الأخر ، اعد بيتي ، اعد مدرسة أطفالي ، اعد لي أيها اللعين أقلامي ودفاتر ، اعد لي أقلامي ودفاتري ، لعلي بعد أن افيق مما حل بي ؛ أكتب على جبين الدهر للأجيال صفحة ، أو سطرا ، أو حكمة ، أو بيتا ، أو قولا مأثورا ، إياك إياك أن تجعل حاضرك ومستقبلك ثمنا لثلاثة أحروف فقط (و ، ه ، م ) .