* المبدعون الجنوبيون مساكين مغلوبون على أمورهم ، يعيشون بيننا غرباء ، ويموتون أيضا غرباء .. اللهم لا اعتراض ..! *الشاعر الغنائي (مصطفى خضر ) عاش في (الجنوب) بائسا ، ظل يوزع شهده في مزاد فني مزدحم بالقامات الفنية ، صنع من بؤسه ومن حافته التي كانت حبيسة لنظرة الازدراء من طرف (العيارين) ملحمة ابداعية ترجمها توأمه (محمد عبده زيدي) الى (دراما) تراجيدية تنبض بعاطفة صادقة ومؤثرة ..! * عاش (مصطفى خضر ) في عدن وفي جرته بعض الملوحة ، كان يتنقل على سلالم القصيدة المغناة دون أن تقيده قافية ، أو تلزمه بحور ( الفراهيدي) بتفعيلات ثابتة جامدة القوالب . ! * هو ملك الرقة ، وسلطان الاحاسيس ، فلسفته الشعرية البساطة بعيدا عن التكلف والمفردات العويصة ، شعره كان اشبه بحكايات يتلذذ بها كل من هام بمفردات (مصطفى خضر ) ، هذا لأن كل قصيدة عاطفية كانت نتاج معاناة من أرض الواقع ، أبدا لم تكن قصائده مجرد (مزهريات) حزينة تحاكي الخيال ..! * ألتقط (مصطفى خضر ) معاناة الناس وهمومهم ففاضت قريحته وهو ينتصر للطبقات الفقيرة والمسحوقة في حافته ، فصبها جميعا في قالب شعري غنائي ، فلامس برقة اسلوبه مشاعر البسطاء والمعدمين ، كان خير من يترجم آلام الناس وعواطفهم ، وطريقتهم في السخرية من اخاديد تلك المعاناة ..! * ومع بداية مده الشعري ، ونبوغ قريحته الفذة لم يطرق باب كبار القوم في الفن العدني ، ولكنه ظل يبحث عن بطل جديد يرتبط عاطفيا ووجدانيا بملاحمه الشعرية ، ولقد وجد في تقاسيم صوت (محمد عبد زيدي) صدقا ليس له حدود ، فدخل معه في شراكة فنية متحديا قامات شعرية يحتكرها الموسيقار (أحمد قاسم )..! * شيء ما في داخل (مصطفى خضر ) دفعه للتحدي والابتعاد عن التقليد وكلاسيكية الألوان ، فتيقن أن الاحاسيس كتلة تلهم العقل وتلهب المفردة الخصبة التي ترتبط بيوميات الناس ، كان ذكيا وهو يراهن على اللهجة العدنية المحببة للناس ، وكان أكثر ذكاءا عندما اختار (الزيدي) تحديدا ليكون سفيرا للونه الغنائي الشعري الجديد ..! * لم ينس أبدا أن حارته كانت مثارا للاستهجان ، ومدعاة للسخرية من ناسها ، كانوا يقولون أن حارة (مصطفى خضر ) من البطارقة ، ليس لهم في الشعر والابداع ، فكان التحدي بين (مصطفى خضر) ونفسه أن يجعل من حافته وحارته فرقدا يرشد الجميع الى عالم الابداع الفني ..! *عندما استمع الى اغنية (فقدان كثير) تشدك غربة موحشة الى عالم التيه والضياع ، تشعر أن (مصطفى خضر) يطبب جرحا عاطفيا ما زال نديا ، وتتحرك في داخلك معاناة موغلة في الحرقة ، وبين الرجاء والأمنية ينساب شعر (مصطفى خضر ) ناشدا فينا فجرا جديدا ، وغدا ستذوب فيه كل اضطرابات العاطفة الجياشة . .! *استمعوا الى نحيب اغنية (يا قلبي كفاية) ستجدون أن المفردات تبكي شجنا جراحه لن تندمل ، اغنية في فلسفة العاطفة ، تترجم ذلك التناقض في خلجات الانسان ، مرة يبتهل للحب ويطلبه بحلوه ومرة ، ومرة ينهره ويحرضه على كي الحبيب ورجمه في مزبلة الاهمال ، والبحث عن بديل لا يعزف على أوتار جراح القلب الجريح ..! * وأنا أستمع الى أغنية (السعادة) تنقلني كلمات (مصطفى خضر ) الى عوالم من المثالية التي جار عليها الزمن ، أنها ترجمة فعلية لتجربة شاعر قاسى مرارة الحرمان ، وراهن على عذرية الحب ، لم تكن كلماته مجرد مناشدة للحبيب ، ولا لعبة اغراء ينفد من خلالها الى نقطة ضعف المرأة ، لكنها في الاساس كلمات تنبع من عزلة عاطفية ، ومن هيجان نفسي يجد هدوءه وسعادته بقرب حب صادق يبني دنيا حلوة ، دنيا ما فيهاش عذاب ولا فيها قسوة ، وأبدا ليس من طابع (مصطفى خضر ) التشاؤم والبكاء على اطلال المساء ، لقد كان شاعرا منفتحا على الحياة ، عاشقا للأمل ، متفائلا بغد نستطيع نزرع في حقله ورود حتى في فصل الخريف ..! *امتلك (مصطفى خضر ) حدسا فريدا في تطويق المفردات العامية التي تتساقط من أفواه الناس بطريقة عفوية ، ووظفها في خدمة نصوصه الشعرية ، فلامست جوارح العامة البسطاء ، وتحولت الى حكم وأمثال تتردد في حياتنا متماشية مع ايقاع الزمن ..! *انصتوا جيدا لرائعته القسمية المدهشة ( ورأسك) ، أنها نص شعري يقرأ بالأذن لمعرفة أبعاده ومصفوفاته ، كلمة نتداولها في حياتنا كقسم فطري وعفوي ، لقد منحها (مصطفى خضر ) قلبا ينبض بالحياة وبتقاسيم الواقع المرتبط باحاسيسنا ووجداننا ، ولعل (الزيدي) نبغ نبوغا فاق كبار اساتذته وهو يضع لحنا ملحميا ودراميا لنص القسم الشائع في عدن تحديدا ، وعندما تنساب موسيقاه تشعر بغمغمة الحقول ، وبنهر عاطفي يتدفق كالسيل في العروق ، أنها ملحمة غنائية تحرض على الحب الصادق العفيف ، كما أنها دعوة للتصالح بين المتخاصمين وعودة الى رومانسية العشق بلا حدود ..! *كانت نصوص (مصطفى خضر) أبن حافة حسين تملأ سماء وحفلات عدن في الستينات ، بلونه العدني واللحجي البعيد عن الزخرفة والتكلف ، ولقد شعر الموسيقار الكبير في سباقه الفني بخطر يهدد قمته ، فلجأ الى (مصطفى خضر ) يخطب وده ويقترب منه ، حتى سكب في أذاننا أربعة نصوص شعرية خالدة ، رفعت من مكانة (أحمد قاسم) في القمة ، ومكنته من أكل الجو في حفلات (البادري) على حساب منافسه (محمد مرشد ناجي ) ، وتوزع الايقاع الموسيقي بين رائعة (أحبك أنت ) و عبقرية (نعم أهواك) الى أن تربع الثنائي (قاسم وخضر) على القمة الفنية بلا منازع من خلال كسب المعركة الفنية بالطريقة الشطرنجية الرهيبة (كش ملك )، والفضل في هذا التفوق للنجاح الساحق الماحق الذي لازم الالياذة الغنائية الخالدة (ذا أنتهى كل اللي قالوه ، انما نحن ابتدينا) ، نص شعري يحاكي عبقرية (مصطفى خضر ) في تدجين المفردة البسيطة ، وتحويلها الى لوحة ناطقة تنساب برقة ونعومة في أذهان العشاق في الجنة الجميلة ، كما أن اللحن الخالد للموسيقار ( أحمد قاسم) والأداء الراقي المتدرج مع العاطفة أعطى للنص الشعري حيوية وحياة وروح تسمو في عالم من الفرح والمرح ..! *وبرحيل آخر عنقود عمالقة الطرب الأصيل ( مصطفى خضر ) غريبا في (الكويت) بعيدا عن حافة حسين ، يطوي الردى زمنا فنيا كان صانعوه من عباقرة الذوق الرفيع ، لحق الشاعر البسيط ( مصطفى خضر ) بضلعيه (الزيدي وأحمد قاسم) وترك لنا أذانا تعشق قبل العيون احيانا ، لقد عانى (مصطفى خضر ) شاعر الحب والهيام من فراق مرير برحيل توأمه (محمد عبده زيدي) ، وها هو يلحق به بعد أكثر من 23 عاما ، وشاء القدر أن يباعد بين التوأمين حتى في لحظات الوداع ، ستبقى يا (مصطفى خضر ) حيا في حياتنا و معاناتنا ، سنراك في ايقاعات يومياتنا المتهالكة ، وفي حاجتنا للحب والعشق والهيام كي نقفز على آلامنا ، سأظل أردد في حضرة مسيرتك الشعرية الحافلة روائعك الشعرية صبحا ومساء ، فأنا أيها الفارس ، يا من وارى جسدك ثرى الكويت (فقدان لك كثير ) من قمة رأسي حتى أخمص قدمي ..!