في يوم من الأيام وصل بي الحال حداً تمنيت فيه أن تتوقف المخادر (تقليد متبع من تقاليد الفرح المتبعة في بعض مناطقنا الجنوبية، وعلى وجه الخصوص لحج وأبين). ولم يكن ما تمنيته ناتجاً عن كره في الفرح ذاته، ولكن لأسباب رأيت أنها أساءت إلى هذا الشكل التقليدي من أشكال الفرح الشعبي، فقد ارتفعت كلفة إقامتها، وصارت منفرة للكبار بسبب الأصوات القوية والمزعجة المنبعثة من العديد (وفوق الحاجة) من الميكروفونات المعلقة في جوانب المخدرة. كما شكل إطلاق الرصاص الحي، و العشوائي من داخل المخدرة وخارجها، هاجساً آخر، بل وقلقاً من أن يكون لذلك الرصاص ضحاياه من الأبرياء. ومن جانب آخر، يأتي التدافع والفوضى التي تنشأ عند وقت الغذاء. وكذلك ما يحدث من أعمال صبيانية أثناء غسل العريس، ورغم براءتها، إلا أننا نعتقد أنها تُسيء إلى نقاء هذا التقليد.
هذا، إضافة إلى كثرة عدد المخادر التي يصادف آقامتها في ذات اليوم، أوفي ذات الأسبوع أوفي ذات الشهر، وصار صعباً معها على الأحبة أن يتجابروا في الدنيا، كما ينصح الشاعر الأبيني على تلك الأسباب بنيت حينها تلك الأمنية (توقف إقامة المخادر). إذ لم تكن المخادر أيام زمان بالكثرة التي نشهدها هذه الأيام. كانت هناك جهة/ات تنظم إقامتها في الحوطة وتبن. وكان الغذاء يتم تحت إشراف العقلاء من كبار السن، والأولوية تُعطى للضيوف من خارج الحارة أو القرية. وكان القبيلي حينها يطلق طلقة أو طلقتين تحية من بندقيته قبل دخوله المخدرة فيرد عليه أصحاب العُرُس التحية بمثلها. بعد ذلك يضع بندقيته بجانب مدكاه ولا يرفعها إلا عند اعتزامه المغادرة.
وفي تلك الفترة (الماضية) التي تمكنت فيها الجماعات المتطرفة من فرض سيطرتها على الحوطة وتبن متبعة مختلف أشكال الإرهاب؛ من اغتيالات وتقطعات وتفجيرات، حاولت تلك الجماعات فرض أفكارها المتطرفة على الناس في المديريتين، لكنها لم تكن مستعدة في الدخول في صدام معهم في حال تفكيرها في منع الغناء في الاحتفالات.
كانت تجربتهم الفاشلة في الحوطة بعد حرب 94 م ماثلة أمام أعينهم عندما حاولوا، حينها، منع أي حفلات يمارس فيها الغناء على اعتبار أنه حرام.
ظلت المخادر تلعب دور المقاوم المستميت في وجه قوى الشر والظلام وظلت الأغنية هي السلاح الذي يواجه فكر التخلف والتطرف. . أعداء الحياة.
في تلك الفترة الحالكة السواد، أيضاً، التي مرت بها الحوطة وتبن كان سماعنا لأغنية تأتي من مخدرة يمنحنا الأمل في أن لحجنا(الحوطة وتبن) لا بد أن تخرج من تلك الظلمة إلى النور مستعينة بالله وبإرث تاريخي وحضاري متميز.
كل ذلك أقنعنا بأهمية وضرورة استمرار المخادر، رغم ما يشوبها من تشوهات نتجت عن ذلك الزمن الردئ الذي عاشته لحج مرغمة.
كان معنى استمرار المخادر، بالنسبة لنا وسماع الأغاني تصدح منها، هو استمرار للحياة في لحج والتأكيد على أن لحج الفن والطرب . . لحج القمندان وسبيت وفضل لم ولن تهزم من قبل حفنة من الخارجين من كهوف التاريخ. . أصحاب كلمة الحق التي يُراد بها باطل.
وبعد هذا كله لا نملك إلا أن نقول: سيري. . سيري، يامخادر.
مع الاعتذار لشاعر ومغني الأنشودة المشهورة(سيري. . سيري. سيري يامواكب)