"جنوبُ مابعد الرابعِ من مايو ليس كجنوب ما قبل هذا التأريخ" .. عبارةٌ وردتْ في إعلان عدن التاريخي فكانت بمثابةِ "عقد النيّة" للانتقال بالعمل السياسي الجنوبي إلى مرحلةٍ متقدمة ، لكن النوايا في العمل السياسي ليستْ كالنوايا في العبادات ولن نُؤجرَ عليها أو تؤتيَ أُكُلها إن لم تصدقْ بالعمل !! فأن يبقى هذا التوجهُ الجنوبي مجرّد "عقد نية" ظلَّ ديدن أعداء الجنوب ومازال هو الهاجسُ الذي يراودُ العدوَ المتربص بالمشروع الوطني الجنوبي الساعي للاستقلال . إعلانُ المجلس الانتقالي الجنوبي وتسميةُ قيادته وأعضائه أراد للجنوب فعلاً أن تكونَ غيرَ ما قبل ذلك التاريخ وجعلها كذلك رغم المزايدةِ السياسية من بعض الأطراف الجنوبية التي رأت في المجلس فقداناً للمصالح الأنانية الضيّقة ووأداً حقيقياً للمناطقية والاسترزاق والسمسرة وغيرها من ممارسات الابتزاز التي شابتْ وشوّهت مكوناتِنا الجنوبيةَ خلال فتراتٍ ماضية واستطاعت بفعل الاختراق والتعاطي غير المسؤول أن تفشِلَ تلك المكونات . لستُ ممن يؤمنون بالنوايا في العمل السياسي لكني مؤمنٌ بأن المجلس الانتقالي غيّرَ مجرى السياسة الجنوبية ونقل قضية شعب الجنوب إلى مصافِ القضايا السياسية الكبيرة والهامة في المنطقة العربية وأدخلها معمعان الصراع الخليجي الخليجي الذي كان بمثابة نار تحت الرماد . إعلانُ هذا المجلس وحيثياته والترتيب له وطبيعة وحجم الأطراف الإقليمية الداعمة له سياسياً ولوجستياً كشف العُمق الحقيقيَ لقضية الجنوب ومكانتها في إطار السياسات المتعددة -ومنها المتباينة- في دول مجلس التعاون الخليجي ، وبالتالي صارتْ الجنوب أو بالأحرى أدركنا ولو بعد حين أن مسألة الإرادة الشعبية باستقلال الجنوب رقمٌ صعب في المعادلة الحاصلة اليوم وجزئيةٌ رئيسية في خِضم الصراع الخفي بين الأشقاء بالخليج العربي ، وأدركنا أخيرا أن "وحدة اليمن" مجرّدُ وهمٍ كانت ومازالت تبيعه السعودية لتمرير سياسات معيّنة مع أطراف وقوى شمالية ارتبطت بها المملكةُ قديما وربطتها بها مصالح مشتركة ومتداخلة يصعب التخلي عنها دون تكتيك وبدائلَ ممكنةٍ . الحديثُ عن المجلس الانتقالي بشيءٍ من الميتافيزيقة المطلقة وأنه يتحتم عليه إعلان دولة الجنوب أو أن يكونَ ذا استقلاليةٍ تامة دون ارتباطات خارجية حديثٌ قاصر وغير واعٍ ولا ناضج لا سياسياً ولا فكريا ، فلولا ذلك "الخارج" والارتباط به لما وُجد لدينا مجلسٌ أساساً ، ولن يكون له هذه القوة من التحرّك والتمثيل خارجيا دون ارتباط ومصالح مشتركة ، فليس كل ارتباط خارجي عمالة أو خيانة !! وما هذه ألمآخذُ التي تُطرَحُ ضد المجلس الانتقالي إلا من بابِ المزايدة السياسية على الجنوب ومن باب النكاية ليس إلا . ما يمكنُ أن يُؤخذَ على المجلس الانتقالي فقط هو التركيز الكامل على مسار العمل السياسي وتأجيل وربما التخاذل عن المسار الأهم الذي يعزز المسارَ السياسي ويستمد منه قوته وبقاءَه ألا وهو المسار العسكري وإحكام السيطرة على الأرض والحفاظ على النصر ، فلم تتشكلْ قوةٌ سياسية في الجنوب بلغتْ حد المجلس الانتقالي إلا بالانتصارات العسكرية التي حققتها المقاومة الجنوبية ، وفي المقابل فإن أية انتكاسة على الأرض هي انهيارٌ حقيقي للمجلس الانتقالي والمشروع الوطني الجنوبي برمته ، لهذا لابدَّ ومن المُفترَض بشكلٍ عاجل إعلان مجلس عسكري يضم قياداتِ المناطق الجنوبية ورموزَ المقاومة وهيكلتها من الوضع الملشياوي إلى وضع آخر فيه من الاحترافية العسكرية والأمنية ما يوازي عمل المجلس السياسي ويعزز توجهاتِه ، فليس من المنطقية ولا من العقل والوعي أن يكون لدينا مجلس وعمل سياسي جنوبي ومقاومتنا المسلّحة في يد الشرعية اليمنية تجيّرها وتستقطب رموزها يوماً عن يوم نحو أهدافها التي تتقاطعُ تماما مع تطلعات شعب الجنوب ومع الأهداف والمبادئ التي وُجدت من أجلها هذه المقاومة أصلا !! أعودُ في الختام وأقول إن المزايدةَ المقيتة ضد المجلس الانتقالي هي استعداءٌ ممنهج للحرية والكرامة وهي تخندقٌ واضح ضد تطلعات الشعب الجنوبي ، فالمجلس وسيلةٌ لبلوغ تلك التطلعات ولن يكون غايةً بأي حالٍ من الأحوال ، فنجاحه هو نجاح للإرادة الشعبية وتعثره هو تعثّرٌ للأطراف الخارجية الداعمة له أو تغيير ما في مواقفها ، فالانتقالي زائلٌ والإرادة الشعبية والمشروع الجنوبي نحو الاستقلال هو الباقي ، لكن هذا المجلس سيبقى البوابة التي دلفت منها إرادة الجنوبيين إلى مصاف العمل السياسي والدبلوماسي الاحترافي .