في لحظة كانت تسرقني من واقعي، في جلسة ودية مع رفيقي ..أشعر كأنما أنا معه جسد بلا روح، ووجود وغياب. رن هاتفي ليفجعني بنبأ وفاة خالي.. صاعقة كانت بامتياز، وقاصمة لم تبق في ساكنا إلا وحركته. كيف لي أن أجمع نفسي وشتاتي؛ وأنا متناثر في كل حدب وصوب، وكلي شظايا قهر، وجراحات فراق. مات خالي وماتت الدنيا معه. مات خالي الوحيد معي في الدنيا، ولم يبق لي خال أناديه بهذا الاسم الفخم العتيق. مات قدموس الحنان، وطيبة القلب، وصفاء النفس، والحب الصادق الذي أشعر به خاصة في نفسي، وهو يوزعه للآخرين. مات صاحب الدمعة القريبة، والعبرة الصادقة، والمشاعر الفياضة، في خدمة الآخرين، وإعازة المحتاجين، ونفع المكلومين. مات اسم شعبي، وطني.. عسكري نضالي.. كان صفحة ناصعة البياض في النضال، والوطنية والفداء. مات الرقم الصعب الذي يعرف المدينة وتعرفه المدينة.. في حضور الموكب الجنائزي المهيب، والمهيب جدا.. حضرت تلك الجموع.. المسؤولة، والوطنية والفدائية.. من هذه المنطقة، ومن مناطق أخرى.. وكلهم بين معترف بوفاء خالي، وأمانته، وشجاعته، وصدقه.. وما بين أسيف كسير على فقده، وخسارته التي شعر بها كل ثقيل وذي إنسانية في هذه الحياة. ... رحل وترك لنا وجع الأيام.. وغادر وترك لنا دموعا تبكي عليه، وقلوبا مكلومة به. ... نعم غادرت، وأيقنت بمغادرتك حين وضعت على جسدك العزيز أول الثرى، وانهال الناس في دفنك. غادرت جسدا، وأبقيت لنا ذكرا حسنا، وسمعة فواحة عاطرة، وطالع السعد بالخير والصلاح وملازمة المسجد. تعلمت منك كثيرا من الدروس الصادقة حين كنت ترسلها لقلبي الضال، متنوعة... متعددة.. مسؤولة. أعظم ما تعلمت منها أنه من الصعب بمكان أن أحمل كقلبك الطيب، وحسن نيتك في الآخرين. غادرتنا نعم، وأنا على يقين أني لم أشهد وفاة لقلب أطيب من قلبك، ودمعة تترقرق أقرب من دمعة عينك. غادرت، وبقيت تغادر حتى نغادر بعدك، ونلتقي بك في الجنة، إن شاء الله. كل تلك الجموع المختلفة والمتعددة، والبعيدة والقريبة التي شيعتك وندبتك قهرا ووارتك.. على يقين أنها بين باكية وحزينة وشاعرة بحجم فقدك وفراغك الذي يصعب شديدا أن يسده غيرك. بأم عيني رأيت الكبار والكثار يهربون من أعين الناس ليجدوا مأمنا.. فيرسلون دموعهم يبكونك في خفاء.. وبأم عيني وعين الآخرين رأيت من عجز عن التخفي فأرسلها دموعا حاضرة ولم يعد يبالي بأحد. وأنا في مشهد تغسيلك وتكفينك أقول كالمشدوه: أهذه اللحظة هي آخر لحظة لي معك في الدنيا؟ أهذه الجثة المهابة التي كنت أبتدرها بالتقبيل والعناق والإجلال تصير بأمر الله هكذا؟! نعم، كل قوة إلى ضعف، وكل حياة إلى موت. كنت وأنت رهين بين يدي ملك الموت.. كأنما القوة والمهابة ما تزال تخبر أنها لن تغادرك ما دمت في مرأى الناس: "علو في الحياة وفي الممات.. لحق أنت إحدى المعجزات". وأنا أواريك لكأني أشعر أن الجو قبرك وليست الأرض، ولكن فعلا هكذا شعر الناس. .. ثم إني سأخبر الدنيا بموتك، وذهابك عن متاعهم. وسأخبرهم أني لبست تيها وشرودا وشتاتا وضياعا وخمولا ووجعا لم ألبسها قط في حياتي، ولم أشعر بها. يا وجعي الذي يقتلني، يا لحزني الذي صفعني وآلمني. يا لسند ألتجؤ به، وعقل أقدسه، وحضور أهابه. كيف سمحت أن تصادر هذا عني؟ كل هذا؟! ماذا أبقيت لي غير ركام من ألم، وفراغ من ذكرى، ودموع بلا صوت، وأعين حرى حمراء؟! أقبل الموت بما فيه، وأخذك بما فيك. قلب يتألم، وعين تتكلم بدمع شديد الضياع، أضاع محاجره ووجنتيه، وخبط خبط عشواء، فانتشر في شعاب روح مشدوهة، وتوزع ينبئ بحدث قتل كل حي عندي بضاعة.. نعم. وكلنا بضاعة الموت، وأمانات الله..يعطيها متى شاء، ويأخذها عمن يشاء. أعدك أننا وإياك سنطمئن حين نعلم أنه:لم يغب عن المصلين مكانك في بيته الكريم، ولا كرسيك في الصلوات عابدا لربك العظيم، قائما وراكعا وساجدا. حضرت في كل الصلوات، وكثيرون يغيبون ويحضرون. كنت مع الله في صفوف المصلين، كعبا بكعب ومكنبا بمنكب، حتى ضربك التعب، فما تخليت عن الصلاة، وصليت كما أعذر الله. لن يخيب الله سعيك للصلوات في الظلام، وفي البرد الشاتي القارس.. والله لا يضيع أجر المحسنين. وأخيرا يا خالي -وقد سلبت عني الخؤولة، وصرت بلا خال، وكنت لي الأب والخال معا- فقيدي القاتل لروحي برحيله.. فيا فراغي الواسع: قلبي لا يتقن رثاء من يحبه، ولا يجيد تفاصيل من يفارقه من خاصيته.. فالقلم مكسور، والحبر جفاف، والورق احترق بنار حزن لا تبقي ولا تذر. فإلى نفسي: احتسبي وتصبري؛ فربنا سيجمعنا تحت ظل عرشه بإذنه سبحانه، وإن كنتِ مشتعلة بنيران الفراق، فليس لك إلا الصبر والاسترجاع. .. فاللهم رب جبرائيل وميكائيل فاطر السموات والأرض ، اغفر له وارحمه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله.. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل! 8صفر 1439 28/ 10/ 2017م