دم ضالعي، يسفك في بيت أبيني، في قضية واحدة وتهمة واحدة. لقد ذهبت النعرات والأحقاد بين المحافظتين ياقوم. الجنوبيون اليوم يد واحدة، والضالع تصنع سور الود، والإخاء، وتسكب دمها الغالي مع الدم الأبيني. كمال الضالعي.. كان أعظم مثال يفسر هذه الحقيقة اليوم. رحل كمالٌ ووضع بصماته في منزل أبيني، ليمتزجا في تيار واحد، ويودع أحدهما الحياة، ليبقى دم الآخر يغلي فيه ليأخذ ثأره. لن أتكلم كثيرا عن هذه الفلسفة؛ فالبصمة العظيمة ستكون جسرا دون كل المناوئين، ومن يقربون النار للحطب. اللحمة الجنوبية، واليمنية.. بقدر ما تعنيني وتعني كل الشرفاء والأحرار، بقدر ما أموت كمدا وقهرا وضياعا جراء رحيلك يا كمال. رحل كمال بما فيه.. رحلت معه البسمة، والروح المرحة، ورحلت تلك الطلة الصادقة التي يرفل بها موزعا السلام والسعادة في قلوب الحاضرين والعارفين له. كمالٌ.. الصديق الذي يأبى أن تتركه صديقا عاديا.. يأبى إلا أن يأخذ القلب بما يحمل من حب ووفاء.. يحمله معه، ويترك للآخرين بصيص حب؛ للآخرين جميعا. رحل كمالٌ جراء استهداف منزل العيسي، وكان إذ ذاك بين الحاضرين.. فمات كمدا وظلما.. واحترق بنار المهاجمين. أتعرفون من هو كمال.. هذا الرجل الاستثنائي.. الاستثنائي في كل شيء؟! أتعرفون ما رابط الصلة بين كمال الضالعي الدم، وبين أديب الأبيني..؟! العرقان المختلفان.. الذي يحاول الأعداء إلا صنع العداء بين هذين العرقين؟! بعضهم يوسع هذا الإطار، ويصنع البعد الشاسع، والحقد الكبير بين المحافظتين كي لا يتقفا، ويباعدهما كي لا يقتربا، ويفاصلهما كي لا يتصلا.. وما علم أن من بينهما رجالا كأمثال كمال وأديب وغيرهما من الشرفاء هم الذين يصنعون الفرق، ويلمون الشمل، ويصلون الفصل، ويوحدون الجمع، فيشد بعضهم بعضا.. وتنتهي المؤامرة تماما. إنه -وبمجرد التفكير في صنع الوفاق- بدأ طابع القضية المناطقية يمحى، ومن بدايتها انقضى أمرها، وتم محوها.. وحرقها بإذن الله. كمال.. رجل مرح، محب، صادق، طيب، بشوش.. مسالم. وبالمقابل : جاد، شهم، رجل مرحلة، وكلمة، ومقاتل من الطراز الأول مع وطنه وبلده.. وداعم بماله ووقته في سبيل الله، وفي سبيل خدمة الوطن والبلد. كمال يعمل عضوا في هيئة الائتلاف بين الضالع وأبين وجميع قضايا المقاومة الجنوبية.. وأديب يرأس هذا الائتلاف.. هاهي المعادلة قد بدأت تتضح جذورها، ومتراجحاتها. .. أكبر المؤهلات التي جعلت (كمالا) في هذا المنصب الشريف، والإصلاحي الصعب على غير الشرفاء.. أنه يبغض العرقية والعنصرية والمناطقية.. ويكأنه لا يحبه العنصريون. -مجلسان يتيمان جلستهما معه، فدخل جوف قلبي، وحصل على مكانة داخلية.. يجهد الكثيرون الأعوام ليبلغوها في كثير من تلك القلوب، ولما يبلغوا. الغيث إذا أقبل أسعد كل شيء؛ وكمال سعادة الغيث، وفرحة المطر، ونتيجة السرور. يقبل ضاحكا، ويغادر كذلك. دعابته في حديثه، وهو يجاهد نفسه أن يتكلم إلا مبتسما.. كانت هنا هي بوصلة الفرق. تاريخه الكبير كله نضال وإصلاح بين الناس. وشغله الشاغل في الحياة أن ترحل المناطقية، ولا تعود.. وتموت فلا تبعث من جديد.. لقد قضى نسبة كبيرة من هذا المشروع العظيم الذي لا يدخله إلا من حصل على أعلى مراتب الشرف والوطنية وسلامة القلب. فتم له القصد، ونال المراد، وكان رسول خير، وداعية حق، وسفير وئام ووفاق. واجه كل العقبات، والمطبات، والمثبطين، والمهددين.. لأنه لا يرى أمامه إلا شيئاً واحدا هو شغله الشاغل.. (إذا ما طمحت إلى غاية... نسيت المنى وركبت الحذر) بالأمس القريب التقينا به نعزيه في استشهاد ابن أخيه، واليوم نحتشد فيه لنعيه، ولنبكيه. ثم غادرنا كمال، وفي قلبي أريكة هانئة له، يسكنها بهدوء.. وله في القلوب الطيبة والصادقة والكبيرة.. سرير حب، ومتكأ نبل، وأريحية العظماء. عظيم هو في شخصه، وطلته، وفكرته، وحياته.. وصفاء قلبه. (كمال) اسم يستحيل، ولفظ يتوسع إلى عشرات الصور والذكريات والمناقب الجميلة. هذه الطيوف وتلك الرؤى، تلك الاهتمامات والوجدانيات والمشاعر الحية التي تسكنك.. لا تسكن إلا القليلين -والرجال قليل-!. تلك الأفاعي التي تشرب من دماء نقية طاهرة، وتستخرجها عبر سموم، تبثها كذلك سموما؛ فتنهش القلوب، وتجرح الضمائر، وتقتات من لحوم الأبرياء، ثم تعود فتتروى كرة أخرى. خضبوك بالدم، والدماء تختلف، وأحرقوك بالنار، ومن الحرق ما يصنع شيهدا عند الله. كنت لنا البلسم، فصرت الجرح، وهأنا أتكئ على جرحي وأطوف البلاد والقفار ! حين كنت كمال الأمل، أنت بذهابك اليوم كمال الألم. أبيت إلا أن تقهرنا على فراقك، فنعلل أنفسنا بلقائك، وحتى بعد موتك أبيت إلا أن تفجعنا بقتلتك، ويزداد قهرنا وكمدنا، ولكن علنا نكون إخوانا عند الله في جنته. ثم ماذا؟ رحلت وكان الموت فيك يضرني وكنت هنا في ذي الحياة تسرني .. وكم كنتُ ذا فخر بلقياك حينما تبادلني صفو الحديث تغرني .. وإني على هذا النذير مقطّعٌ بالآم فَقْدٍ والخطوب تضيرني .. لك اللهُ يا شهد الحديث وروحه فبعدك قد أصبحتُ لست إخالني .. سوى بيت آلامٍ وقاموس حسرة به تلك أيام الهوى لا تفيدني عزاؤنا يبلغ الأفق، ويجوب البلاد.. يصل الشرفاء والصادقين والوطنيين.. لا عزاء لنا كمثل الدين والوطن. عزاءنا لذلك البيت الذي أخرج هذه الحسنة التي غطت الأفق سعادة، وأشعلت الدنيا تضحية، وعطرت الهواء نبلا ومحبة.. يصل زوجة مكلومة فجعت بنادرة في قومه، ودرة من درر البلد.. فغاب الأنيس والجليس والسمير.. ولأبناء فجعوا بموت معيلهم، وفخرهم، وعزتهم.. من يسد مكانك يا كمال.. من يصنع كمالا ككمالك.. من يحسن البناء.. ويحمل العناء، ويجمع الحقوق، ويمحو الشقوق.. من يصنع سواك هذه الفروق؟! ذهبت لذلك المكان وحيدا، تفصلنا عنك الآباد، يا دنيا! لم كانت هذه الحياة هي السخرية الكبرى للفناء.. كل ما بقي أنك رحلت يا كمال.. وحل بموتك ذهاب كل جميل فيك. والله الوكيل بصبرنا، وعزيمتنا جميعا بعد فراقك، ولنا ولهم الله.. وهو حسبنا ونعم الوكيل.