قبل حوالي عشر سنوات قرأتُ قصّة الثورة في شمال اليمن عبر مؤرّخ انجليزي شهير: إدجار أوبالانس. وبالرغم من أنّي كنتُ أعرِف تقريباً أقصى ما يمكن أن يقال عن الثورة، إذ إن تاريخنا اليمني الحديث غالباً ما يكتب على تباديل وتوافيق: المديح والهجاء، لا الدقة والمنهجية. وبرغم أن ما يمكن أن يُقال عن الثورة اليمنية، عبر أي رواية، من الممكن أن يتشابه، إلا أني أزعم أن أمراً ما فاجأني أكثر من الثورة ذاتها. في الواقع: لقد تفاجأت بأمرين اثنين: حقيقة يوم الثورة، والبحث الملح عن دور مركزي للسيد الرئيس علي عبد الله صالح في تفاصيل ذلك اليوم وما تلاه من تفاعلات جسيمة. وحدها الحقائق بالغة الصغر، الميكروسكوبية، قد تختلف في كل الروايات. فمثلاً: كانت الثورة اليمنية، طبقاً لتلميحات أوبالانس، زائفة منذ البداية على عكس بقية الثورات في بقاع كثيرة من الأرض حيثُ تصاب بالوهن والزيف بعد زمنٍ من اشتعالها الصافي. فقد اشترط السلال وبطريقة غير جمهورية بالمرّة أن يكون أول رئيس جمهورية. هذا مع أنّه كان الأقل إدراكاً لفكرة الجمهوريّة بين كل مخططي الثورة وفي مقدمتهم الزبيري. وبالنسبة لمؤرخ عالمي مرموق فقد كان هذا كافياً لتزييف الثورة. طبقا لأوبالانس، في كتابه "اليمن الثورة والحرب"، فإن ثورة 26 سبتمبر قامت في 27 سبتمبر! تساءلتُ: رُبّما كانت الدهشة أكبر من قدرة المنتصرين على الإحساس بالزمن فظل اليمنيّون يحتفلون لا باليوم الذي قامت فيه الثورة، كما تفعل كل بلدان العالم، بل باليوم الذي حلموا فيه بالثورة. ففي كل مرّة كنتُ أقرأ: قامت الثورة اليمنية مساء السادس والعشرين من سبتمبر. ولم يحدد أحد ما المقصود بكلمة "مساء"، إذ ربما كانت تعني: فجر السابع والعشرين، وهذا ما يقوله التاريخ بجلاء. وبالرغم من أنها قامت " في المساء" إلا أن الحديث عن "فجر يوم الثورة التي اشتعلت مساء!" لم يتوقف لوهلة واحدة، فهو حديث لا يزال يندفع مثل ريح في خيمة بدوي.
وإذا سلّمنا بأن الثورة قامت مساءً فإن فجر الثورة المتخيّل لا يعني سوى أنها كانت في ال 27 من سبتمبر. الزبيري، على سبيل المثال، قال عن ذلك اليوم: يومٌ من الدهر لم تصنع أشعته شمسُ الضحى، بل صنعناه بأيدينا. وذلك اليوم هو يوم ال 27، إذ من غير الممكن أن يتخيل أحدٌ أن الزبيري كان يتحدث عن " شمس الضحى" التي طلعت في مساء يوم السادس والعشرين من سبتمبر. إدجار أوبالانس، مؤرخ الثورات والانقلابات في مناطق عديدة من العالم، يتحدث عن الساعة الثانية فجراً، من يوم ال 27 من سبتمبر، باعتبارها ساعة الثورة الأولى في يوم الثورة الأول السابع والعشرين من سبتمبر. الساعة التي دشنت سحق العنصرية السلالية والحلولية القاتلة التي وحّدت الله والسلالة والسيّاف في معنى متألّه واحدٍ غير قابلٍ للنقض أو التفكيك أو المحاورة. لكن أسوأ ما في قصة الثورة هذه أن كثيرين يعتقدون الآن أن الثورة اليمنية لم تكن سوى "ساعة" وحسب، وعلى الأرجح كانت مجرّد: يوم واحد من الدهر، كما هي مقولة الزبيري المشار إليها.
أمامنا النص الأصلي للمنشور الثوري رقم (1) الصادر في يوم الثورة، نشرته صحيفة الجمهورية بنفس فونت الخط الذي كتب به قبل 48 عاما. نشر النص في ملحق يحمل عنوان الثورة اليمنية وأهدافها الستة، بتاريخ 26 – 9 -2010: أيها الشعب العربي في اليمن، لقد اندلعت الثورة، ثورة الشعب والجيش معلنةً فجراً جديداً (....). أيها الشعب العربي الكريم في اليمن، كم طغى الطغاة، وكم كبل الشعب كم، وكم فصلت الرؤوس من الأجسام، رؤوس الثوار أولئك الذين بذلوا أرواحهم ودماءهم في سبيل الثورة التي اندلعت اليوم في 28 ربيع الثاني 82 الموافق 27 سبتمبر 1962م لتعلن عهداً ثوريّاً شعبيّاً جبّاراً ( ..... ). يستمر المنشور الثوري الصادر صبيحة يوم الثورة لينتهي هكذا: والله أكبر، والنصر للشعب – لجنة النشر الثوريّة.
لا ندري على جهة اليقين ما هو سر إخفاء اليوم الحقيقي للثورة، والإشارة إلى يوم سابق له دون مبرّر تاريخي أو أخلاقي. في الوقت ذاته: هل يمكن الحديث عن مبرّر لارتكاب جريمة تاريخية على شاكلة إخفاء اليوم الحقيقي للثورة؟ من الواضح، بحسب غالبية الروايات التاريخية، أن الثوار باشروا الهجوم على معقل الإمام المخلوع فجر السابع والعشرين من سبتمبر، وفيما يبدو لقد تفاجأ الثوار أنفسهم بتدحرج صخرة الثورة في اتجاه النصر المتخيّل على خلاف قدَر الثورة اليمنية الحتمي، إذ سبق وفشلت لأكثر من مرّة. لقد ذهل اليمنيّون، هكذا يمكن أن نتخيل، حتى أنهم وبعد أن تحسسوا جسد الثورة بعد اندلاعها بأيّام عادوا ليتعرفوا على لحظة الطلقة الأولى فقرروا أن الأمر لا يستحق العناء: لقد قامت الجمهورية، وهذا كل ما في الأمر. ثم جرى الشعار الكبير: الجمهورية أو الموت، الذي أصبح فيما بعد عقود من الزمن: الوحدة أو الموت، ثم الانتخابات أو الموت، ثم الموت أو الموت. لقد كانت اليمن في تلك اللحظة من الزمن هي محض "واق الواق" بتعبير الزبيري، وهو ما يمكن أن يفسّر عدم اكتراث الإنسان اليمني للثورة كزمن قدر اكتراثه للثورة كفعل خارج الزمن. ففي اليمن، التي تقع كليّة خارج الزمن كما تشير وقائع التاريخ، غالباً ما يتحوّل الزمن بفعل بطئه الشديد إلى مكان، أو شخص. وفي كل الأحوال فهذه واحدة من سياقات التفكير اليمني الذي يعمل ضمن آلية لازمنية. كما إنه من المتوقّع أن مناطق اليمن المتناثرة على عشرات آلاف التجمعات السكانية، في غياب تام للبنية التحتية للاتصالات والمواصلات، جعلت من الزمن دالة رخوة: لقد بدا الفرق بين 26، 27، 28 سبتمبر كما لو كان فرقاً في درجة الزمن لا في نوعِه، وكما لو أن أحداً لم يسأل عن الزمن على صورة "متى اندلعت الثورة بالضبط" قدر سؤاله عن: هل أصبحت حقيقة بلا رجعة؟ فغالبية سكّان اليمن، بمن فيهم رؤساء اليمن منذ الثورة، لا يعرفون على جهة اليقين يوم مولدهم. فالإنسان في اليمن يولَد كفعل خالٍ من تأثيرات الزمن، لا يعدّه والداه لأمرٍ فاصل أو لمستقبل كثيف مليء بفرص الإنجاز والتميّز بل للحياة المجرّدة الرخوة بكيفما اتفقت معه. وهو فعل لا يستأهل مراجعة زمن الحدث، في بلدٍ اعتاد أهله على اعتبار الزمن جزءاً من مكتسبات السلالة الحاكمة العنصرية.
قد يكون لإخفاء اليوم الحقيقي للثورة ارتباط بترتيبات لها علاقة بضم ثوّار جدد إلى حزمة " فاعلي الثورة" بالرغم من أنهم لم يكونوا صبيحة الثورة في صنعاء. هذا بفرض أن عملية الإخفاء هي فعل قصدي خالص. قد تبدو هذه الفكرة مغرقة في سوء الظن، وهو أمرٌ غير منهجي. لكن ماذا عن هذه الوقائع: نشرت صحيفة الجمهورية في 26 سبتمبر 2010 ملحقاً خاصاً عن الثورة أعده السفير أحمد حسن بن حسن وقدّم له وزير الخارجية د. القربي. وبرغم أن الملحق، 32 صفحة، حمل عنوان: الثورة اليمنيّة وأهدافها الستّة، إلا أن لوحة الغلاف جاءت على شكل بياض ممتلئ بثمان صور مختلفة للرئيس اليمني علي عبدالله صالح في شبابه، في إشارة إلى زمن هذه السلسلة من الصور: زمن الثورة اليمنية. كانت الإشارة شديدة الوضوح: في الداخل ستتعرفون على الدور المفصلي لصاحب هذه الصور في فعل الثورة الخالد! لا وجود لأي من الضباط الأحرار، أو الثوّار في لوحة الغلاف. إنه سلوك فرعوني محض، حين يطمس الفرعون تاريخ أسلافه ويضع اسمَه وصورته في الواجهة. ى سلسلة من الصور التاريخية المختلفة يظهر فيها الرئيس صالح في أماكن ومواقف متفرّقة، في محاولة لتكريس فكرة "الدور الفاعل في الثورة" لرئيس كان يبلغ من العمر 22 عاماً على أعلى تقدير عند اندلاعها (عمره الآن 68 عاماً، بحسب الإعلام الرسمي). وفيما يبدو حصلت الصحيفة، أو السفير حسن، على صورة تظهر السيد الرئيس وهو في عمر لا يتجاوز ال22 عاماً. كان يجلس، كما يظهرُ، في الجانب الأيمن من الصورة الباهتة في معية 8 أشخاص بأزياء عسكرية وغير عسكرية. في الصورة توجد أسهم تشير إلى الأشخاص بأسمائهم، باستثناء الشاب علي عبد الله صالح وآخر يقف إلى يمينه، لا يبدو أن الذي احتفظ طيلة هذه الفترة بالصورة كان حريصاً على التعريف بهما. أما المغالطة الأكبر فجاءت في الصفحة الثانية نفسها. الصفحة تصدرها العنوان التالي: صور مختلفة لفخامة الرئيس علي عبد الله صالح في الستينيات (لاحظوا التأكيد على زمن الصورة) وسط زملائه الجنود والضباط للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر المجيدة. في الصفحة المشار إليها توجد عشر صور تظهر السيد الرئيس صالح، منها خمس صور للسيد الرئيس علي عبدالله صالح في صحبة الشهيد إبراهيم الحمدي، والأخير في زيّه المدني؛ أي أن الصور التقطت في فترة رئاسة الحمدي، منتصف السبعينيات. وباستثناء صورة للسيد الرئيس في شبابه المبكّر، إذ يبدو عليه الخجل والحلُم وفي الغالب لم يكن عمره يتجاوز ال23 عاماً بلا شارب أو لحية، فإن بقية الصور التقطت لشاب اسمه علي عبد الله صالح على مشارف عامه الثلاثين. أي: بعد حرب السبعين وحصار صنعاء. أي خارج مشروع "الدفاع عن الثورة" على خلاف منطق الفكرة التي أراد السفير حسن أن يبيعها للقارئ!
من الواضح أن السيد الرئيس ظل ينأى بنفسه عن أن ينسب لتاريخه أدواراً مجيدة في فعل الثورة، كما لم يسبق أن أطلق على نفسه لقب "ثائر" بالمرّة حتى أنه في خطاباته أمام من تبقى من الثوّار كان يحرص على مخاطبتهم بوصفه قادماً من جيل تلقى ثورتهم المجيدة ولم يشارك فيها. غالباً ما تلمح في خطابه الإشارة إلى "الآباء". هو لم ينسب لنفسه نصيباً محوريّاً من أفعال الثورة المجيدة، بحسب علمي، حتى اليوم الذي ألقى فيه خطاباً في أربعينية الشيخ الأحمر عندما تحدّث عن دور الأخير في الثورة بوصفه "رفيقاً في الدفاع عنها". لا أجزم أن العطّاس في مقابلة صحفية قبل حوالي عام كان يردّ على هذا المنطق الجديد حين غمز مؤرّخي السلطان بقوله: اشتركت في مؤتمر ( قومي) في تعز منتصف الستينات ولم أجد بين الحاضرين شخصاً اسمه علي عبد الله صالح. وهو يقصد، كما يمكن أن يُفهم من حديثه، الشخصية المركزية ذات التأثير والجاذبية. هذا الموقف الخجول من العطّاس جاء بعد ثلاثة أعوام من تصريح وزير خارجية الرئيس صالح، الأسبق، عبد الله الأصنج لصحيفة الناس. تحدث الأصنج عن أبرز الخصائص الإيجابية لرؤساء اليمن في الشمال والجنوب، وعندما جاء على ذكر الرئيس صالح قال: لا أتذكر أن المؤرّخ عبد السلام صبره تحدث عن خصائص عبقرية سياسية أو ثقافية للرئيس علي عبد الله صالح. من المؤكّد أن الأصنج ليس الشخص المؤهل لإصدار حكم أخلاقي ومعرفي على الرئيس صالح، لكن الآكد أن السيد الرئيس يسمح لمجموعة من حملة المباخر أن تضعه نهباً لتناولات مستفزّة كهذه ردّاً على استفزازات ومبالغات جماعة "عبده مشتاق" في موضوع يتعلّق بالتاريخ! وهو أمر قد يتسبب في أذيته بالصورة التي أشرنا إليها في حديثي العطّاس والأصنج. كان يمكن أن يكتفي السفير أحمد حسن بأن يعمل وفق القاعدة التصويرية المعروفة: دع الصورة تتحدّث، وأن لا يدس عبارة "أثناء الدفاع عن الثورة المجيدة" في صلب التاريخ. ففي هذه العبارة القصيرة اختزال عارم لمجمل التاريخ اليمني الحديث على مدى نصف قرن في شخص الرئيس باعتباره الشخصية المركزية الأكثر فاعلية، وهو ما سيعني في الصورة النهائية: تبديد فاعلية الأمّة اليمنيّة لأجل تكثيف الفعل التاريخي في شخص واحد يصعب، طبقاً لأبسط مبادئ الأنثروبولوجيا وحتى الطب، تصوّره فاعلاً ذكياً وناجحاً وحيويّاً على مدار ثلاثة عقود. بقي لدي سؤال: إلى أين تتجه كتابة التاريخ في اليمن؟ ربنا يستر!