تجسِّد رواية (تراوديل) للروائي العدني (ياسر عبد الباقي) _المشترك الثقافي الإنساني بين مجمل الثقافات الإنسانية الراهنة ،إذا ماعلمنا أن شخوص الرواية ينتمون لثقافات وحضارات إنسانية وُجدتْ بشكل طارئ في فضاء من الاغتراب الإنساني المادي ، الذي كان غرضه التحصيل العلمي الراقي في بلد يمثِّل قبلة للثقافات ،لمافيه من نهضة علمية وتكنولوجية وفكر علماني معاصر . وأول مايشدنا لقراءة هذه الرواية ذلك العنوان المباغت (تراوديل) والذي قد لايخرج عن مُرمزة أسطورية لإحدى الثقافات الغربية ،ثم تلك الأحداث المفعمة بالفانتازيا والتي تتحرك عبر مقاطبة يحتويها طرفان ضاغطان بتواتر منذ المفتتح السردي المعنون ب(تراوديل )في ص (5)من الرواية حتى عنونة (شيطان الخاتم) العنونة الختامية في أعلى الصفحة (121) من الكتاب ،إذ تدور الأحداث عبر زمن غير ثابت الخطية ومكان غير محدد بدقة ،وغير مستقر التواتر ،ولعل مايبرر ذلك أن السرد يسعى لمقاربة فكرية بثقتها_ وبدهشة_المفارقة التي تستقطب حاملاً مكانياً وزمانياً وإنسانياً ،في تقاطب مثير يسقط الحضارة والثقافة والفكر الإنساني كافة _على فكرين متناقضين زمنياً يتجسَّدان في (الفكر الراهن )بما يحف به من إنفجار معرفي تتدقق فيه المعرفة والفلسفات وتتناسل عبر طفرات معرفية لاتعرف الاستقرار في بحثها عن الحقيقة _(والفكر الإنساني الأ سطوري البدائي )بما كان يحفُّ به من الفلسفات المعرفية البدائية المنغلقة على الخرافة كمنهج تقريبي للمعرفة ،اتبعه الإنسان في نشأته الأولى في العصور الظلامية .
ولعل ما يؤكد طرحنا الآنف، ذلك التعالق النَّصِّي بين الواقع المحمول في السرد من حيث المكان (ألمانيا اليوم) ص(47)والعنونات الفصلية المثبتة في تقاسيم الرواية نحو: (تراوديل ص5 )ثم يليها (رمزية وكلب أسود أعور ص21)ثم (قطط الغجرية ص37) ثم المفصل المُفضي للتقاطب مع الواقع الزمكاني (ألمانيا اليوم ص47) ثم العودة نحو الخرافة (الشيطان يغني ص75) ثم (الثور الهائج ص 93) ثم (الهر الأسود ص 104) ثم العنونة الختامية (شيطان الخاتم) .
ومن خلال النظر لتلك التقسيمات الورقية في الكتاب نجد أن العنونات الفرعية تلك التي تبدأ من الصفحة الأولى (تراوديل )ومابعدها من عنونات لتمتد حتى عنونة (ألمانيا اليوم) ص(47)لتضع فاصلاً مركزياً واقعياً معاصراً من خلال استحضار الفضاء الواقعي والزمني معاً ،ليضع نفسه مركزاً لموضوعات سردية وعنونات (خرافية) تترابط معه باتجاهين متضادين من اليمين (الصفحات الأولى )إلى اليسار (الصفحات مابعد المركز /الواقع )التي يستأنف فيها السرد الخرافي في خلط عجيب بين واقع الأشخاص (طلَّاب علم من ثقافات مختلفة ،عربية أوروبية وتركية وسيطة )وأحلام وكوابيس تتوثب بهم من أماكن تواجدهم الواقعي وحضورهم المادي في الفضاء المعاصر والزمن الراهن _إلى فضاءات وأحداث خرافية ،ومعتقدات راسخة ،لم تستثني أحداً منهم ،ف(تراوديل وفرانك ) كعينة للثقافة الغربية (فرنسي وألمانية) يقعان أسرى لوهم (الكوخ والخاتم) العاصف بالاستقرار ،و(كنان التركي )يقع أسير وهم مطاردة اللعنة ،التي حدثته بها المرأة صاحبة القطط ،بعد أن دهس هرها الأسود وأرداه قتيلا في بلده (تركيا )أيام شبابهً ،فينتهي به الحال بأن تدهسه سيارة لتحل اللعنة ،بعد ارتدائه الخاتم المشئوم، فيتوفى على أثرها ، ثم (إيتو )الأسباني الذي يقع تحت سيطرة كابوس لعين بما حدث ل(دوبي )الذي توفى في أثناء الممارسة الجنسية مع ابنة (المومس) ومارافق ملابسات موته من فانتازيا عودته للحياة برماد الكاهن ،وتقطيع جسده ،كي يتم إخفاء جريمة المومس عن الشرطة والتخلص منها بيسر ،ثم الاتصال الذي هاتف (إيتو) من أسبانيا ليخبره أن (دوبي) اغتصب زوجته هناك .
وبالمقابل فأن الخرافة والجنس قد اجتاحت الطلاب العرب (حسنة )الجزائرية ،التي جعلتها الغيرة من (تراوديل) تزور (فارس) لتغويه وتتحرش به ثم تمارس الجنس معه ،ثم اكتشاف (فارس )أن حسنة غير طبيعية وواقعة في إطار (لعنة الثور )الذي قتلته، ومنزل الرجل القريب (في بلادها الجزائر ) الذي أحرقته والذي امتد هاجساً يزورها في كل وقت ،وبعد ارتدائها الخاتم ،تقع تحت وهم عاصف ينتهي بانتحارها في سكنها في ألمانيا ،ثم لعنة (الأرنب )الذي ذبحته (رمزية) والتهمته مع أختها ،والتي أودت بها للهلاك بين فتحتي جبل صغير .
وإذا ماحاولنا تفكيك التعالق النصي بين الأحداث في زمن ومكان المغامرة السردية الواقعي،والمتخيَّل الأسطوري المستدعى عن طريق الاسترجاعات والأحلام والكوابيس التي سيطرة على شخصيات الرواية _فأننا سنجد أن الجنس والخرافة كمنطلقين سرديين يمتدان من المفتتح السردي حتى الختام ،ف(تراوديل وفرانك )يحاولان البحث عن مكان آمن لممارسة الجنس ،فيجاوزا المدينة للاحتفال (برأس السنة) في مكان حميمي ،ويستقران في كوخ معزول ومهجور على قمة جبل .فالهاجس الجنسي الملحِّ عند (تراوديل )يطغى ليعرِّض (تراوديل وفرانك )لخطر حقيقي ،بعد أن تجد (تراوديل) الخاتم في الكوخ وترتديه ،فيبدأ العصف بهما داخل الكوخ ،بعد إجبارها (فرانك )على ممارسة الجنس ،ثم تحل لعنة الخاتم ،ويخلصان بإعجوبة .
كما يبرز التقاطب بين الخرافة والجنس جلياً في مفصل (قطط الغجرية ) من الرواية ص37_44 ،إذ يختلي (كنان ورفاقه) عن طريق تقانة السرد المسترجع ،في كوخ مهجور _ليحتفل بعيد ميلاده في بلده (تركيا) إذ يجتمع الأصدقاء ويتعاطون الدخان ويستمتعون بتصفح المجلات الجنسية ،فينزع (يحيى )إحدى الصور التي أثارته وينأى عن أصدقائه قرب شجرة واضعاً الصورة في مكان مستوي على الشجرة ،فيتفاجى بامرأة تتجه نحو المقبرة تتبعها مجموعة من القطط،ثم يعود مندهشاً لإخبار أصدقائه ،فيخرجون ،ويدخلون في حوار فيه من السخرية مافيه ،مع المرأة ،ويعودون بعد ذلك المدينة ،لكن (كنان) يعود بسيارة أبيه للمكان نفسه ،ليجد المرأة والقطط فيدهس القطة ،وتخبره المرأة بأن اللعنة ستلاحقه ،وأصيب (كنان) بهذا الوهم في (ألمانيا )وبعد أن وقع بين يديه خاتم (تراوديل) يدخل في فوضى وهمٍ ،يضطرب معها فيرى القط الأسود في كل مكان ،فيفارق الحياة بعد دهسه في الشارع ،ويتعرف (فارس )على جثته ،وينزع عنه الخاتم ،ويحتفظ به .
إن سيطرة الخرافة والجنس في رواية (تراوديل )للروائي (ياسر عبد الباقي ) عند النظر إليها بنظرة إطارية علوية _تضعنا أمام سرد تؤطره الفانتازية والواقعية معاً ،عبر امتداد الأحداث وتقاطبها بين اللحظة الزمنية الآنية ،واللحظة الزمنية المسترجعة ،كمؤطرين للمعاصرة الفكرية والثقافية بين النقطة الآنية التي وصل لها الفكر الإنساني ،بمافيها من ترقي فكري وانفجار معرفي _ونقطة الفكر البدائي حيثما برز ت الأسطورة والخرافة في العصور البدائية _ كمنهج للمعرفة في ظل انحسار المعرفة في الفلسفة المثالية التي لم تستطع الإجابة عن أسئلة الإنسان في سعيه لمعرفة منطلقات وجوده ،وكيف يستطيع مقاومة الظواهر العاصفة به . ومن جهة أخرى فأن السرد ومضامينه وتقنياته السردية في رواية (تراوديل) لا يخلو من غائية المتعة كوظيفة رئيسة للأدب،إلا أن ثمة حمولة أيديولوجية قارة يحاول السرد مخضها، فحواها أن ثمة مشترك إنساني ثقافي ممتد من العصور البدائية حتى اللحظة الراهنة ،وهذا الامتداد يغطي كل الثقافات الإنسانية دون استثناء ،إذا ماعلمنا أن ثمة تعالياً ومحاولة للتنزيه تمارسه وتقول به بعض الثقافات الإنسانية ،كالثقافة الغربية ،على حساب الثقافات الأخرى وخاصة الإسلامية ،التي ترى فيها وحسب منظورها الجمعي ،انها مازالت تعيش عصر الخرافة والجهل والظلام ،وتفعل بها عقدة الجنس والخرافة ماتفعله في سيطرتها على الوعي المجتمعي . إلا أن السرد يضع واقعاً غربياً مكثفَّاً بالخرافة والجنس كمدخلتين رئيستين للهاجس الإنساني ،ولعل فضاء الجامعة الألمانية التي جعلها السرد الملتقى الأخير للشخوص ،بل والمنطلق الأول لثنائية (الخرافة والجنس )كهاجس ضاغط على الشخوص في الرواية على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والدينية _لعله يبرز مدى قوة المفارقة ،التي تمخض الوهم الغربي المتمثِّل في هاجس الانمياز الثقافي عن غيرهم من الأمم ،مع اعترافنا بتفوقهم الفكري والتنويري في مناطق كثيرة عن تلك الأمم.