بقيةُ حياة ترفرها هبات النسيم بكل ما أوتيت به من قوة، بضع زخات من الأكسجين عبر أنبوب ضيق، مضخات للدم غير صالحة بتاتاً للعمل، وحقن وحقن وحقن، انعاشٌ دائم لا جدوى منه، لا اصف حالة انسان مريض، انا مجرد اصف مساحة من الأرض تدعى (الوطن)، هذه حالته وكل يوم في استياء، طبيب أخبر أن حالته ربما تتماثل في الشفاء الاسبوع القادم، وآخر أخبر: تحتاج الى شهر وتعاود التنفس من جديد، وذاك الخبير البروفسيور الشهير صرَّح بأنه يتشافى تدريجيا ولكن بشكل بطيئ، هذا امل كبير ومزيد ومزيد من الآمال. اما انا المسكين حيلتي الوحيدة في سؤال الطبيب وتكرار الزيارة وتفقد الحال عبر جولة لا تزيد عن نصف ساعة، نصف ساعة قلق، نصف ساعة اكتئاب، نصف ساعة خوف، نصف ساعة ألم، نصف ساعة جوع، نصف ساعة عطش، نصف ساعة موت، نصف ساعة يأس، فقط نصف ساعة من كل شعور، نصف ساعة أرى فيها بشكل اوضح عندما أغمض عيناي، سواد يعم الأرجاء، يشككني بقدرتي على النظر.
ترى أنا المصاب ام هو هذا الذي يدعى (الوطن)؟! هل كلَّ بصري أم ألقى على وجهي عباءته السوداء واختفى؟!، من الطاغي، من الجاني، من الضحية، من الخاطئ، من الصائب من المجني، وما القضية؟؟ على دوام السوء اعتدنا وعلى الاستياء نعتاد، سئمنا وكيف لا نسئم؟َ! ليالٍ سود انهكتنا، هرمنا والعمر في صباه!، ندمنا الندم يسكننا، جُرِحنا جُرحنا باقٍ فينا، نسير وعلى أَكُفنا أكفانٌ، نتوكئ على أي جدار مائل؛ ماعادت جدراننا مستقيمة وما عدنا نقوى على السير، نبالي بما يحدث او لا نبالي، نمر على المقابر نحيي هذا الشهيد بعدما قتلناه!، نحكي رواية ماضينا نقصصها كمن يقصص الأقاصيص على الأطفال، هذه الأرض لم تعد أرضنا بها خراب، بها الحرائق تشتعل، بها أكوام النفايا، بها الحيطان مائلة، لن تقوى على تحملنا ولن نقوى على البقاء، هذه الأرض شهيدة موتنا ونحن شهداء على مقتلها، هذه الأرض غابة ونحن الأفاعي فيها، ليست لنا بالتأكيد، ولكن بالطبع نحبها، على الأقل واحد في المائة منَّا، على الأقل شيئ فينا يحبها، نهجرها لأن لا خيار لنا، طُرِدنا دون رضاها ودون رضانا، الخوف الكامن فيها يطردنا، الى الأمل نسافر بعدما ألغت من جوازاتنا تأشيرات الأمل.
يظل الأمل فيها لغزٌ محَّيرٌ يصعب حله بعقلية الفقير الجائع او الغني الجائر، لغزٌ حله الوحيد في الخروج من عقلياتنا، التآمر ضدنا او معنا كلا الأمرين تجريد رداء الوطنية من على أجسادنا، الحل الوحيد كفاح الذات لتكافح ذاتها، أي الصحوة والتي دوماً إن أتت متأخرة خير من ألا تأتي...