من المسلم به أن القضية الجنوبية صارت قضية سياسية بامتياز، ولم تعد تقتصر على القضايا المطلبية التي أشعلت الحراك الجنوبي في 2007، وأن أي حل لها يجب أن يعتمد على البعد السياسي الذي اتخذته بدرجة أساسية، لذلك سيكون من الأنسب أن لا تحشر القضية الجنوبية كقضية من ضمن القضايا التي سيناقشها مؤتمر الحوار الوطني الذي نصت عليه المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، نظراً للتعقيدات التي صارت تشوبها، وكذلك تعدد الرؤى بخصوصها بتعدد الأطراف التي صارت تمثلها. ويفترض أن تُشكل لها لجنة حوارية منفصلة تضع جميح الطروحات والرؤى على طاولة الحوار دون استثناء. ولا يخفى أن أي حل ينتج عن ذلك الحوار لن يكن له قيمة فعلية، ولن تكتب له الحياة الطبيعية والاستمرار على أرض الواقع ما لم يحضَ بالقبول لدى غالبية أبناء الجنوب. والمقصود بأبناء الجنوب هنا ليس النخب السياسية التي تعيش في قصور وفنادق فخمة في داخل اليمن وخارجها، لكننا نقصد بهم عامة الناس الذين ينتمون إلى المحافظات الجنوبية؛ بمن فيهم أبناء الشمال الذين كانوا يعيشون على أرض الجنوب قبل الوحدة، بعيداً عن الفرز المقزز المتتبع لجينات الأجداد والجدات في الزمن البعيد، الذي صار البعض يروج له في إطار من العنصرية المقيتة التي لا تتناسب البتة مع الموروث الأخلاقي لأبناء شعبنا في جنوب وطننا الحبيب الذين امتلكوا عبر التاريخ قدرة عجيبة على التعايش والتجانس مع شعوب الأرض المختلفة؛ فما بالك بأبناء جلدتهم القادمين من الشمال. وبالعودة إلى عنوان المقالة سنجد أن ظهور الحراك الجنوبي قد ترافق مع كتابات وتصريحات صحفية تشكك بحقيقة الوحدة اليمنية كردة فعل لمصادرة مشروع الوحدة الي تمت في مايو 1990، وقد وصل الأمر ببعضهم لأن يقول: إن اليمن لم تشهد أي وحدة عبر تاريخها الطويل، وإن المناطق الجنوبية والشرقية من الجمهورية اليمنية الحالية (الشطر الجنوبي سابقاً) لم تكن في أي يوم من الأيام جزءاً من أراضي الدولة اليمنية ، وبالتالي فإن ما يسمى بالوحدة اليمنية اليوم لا يعدو أن يكون مجرد احتلال وسيطرة يمنية على مناطق ليست أصلاً من اليمن. لكن الواقع التاريخي يثبت أن الوحدة اليمنية كانت حقيقة ماثلة للعيان في تاريخ اليمن عبر عصوره المختلفة ، ولا مجال لإنكارها. ورغبة في الإيجاز سأكتفي هنا بإحالة القارئ إلى بحث لي بعنوان «الوحدة اليمنية في التاريخ..هل كانت الأصل أم الاستثناء؟» نشرته جامعة إب ضمن كتاب عنوانه «الوحدة اليمنية والألفية الثالثة» كان ثمرة لندوة أقامتها الجامعة في 2007، وحملت الاسم نفسه. ولكن لا يعني ذلك أن الوحدة تظل غاية لذاتها سواء في اليمن أو غيرها، ولكنها وسيلة لتحقيق آمال الناس وطموحاتهم في التنمية والكرامة والنهوض؛ في ظل عدالة اجتماعية ومواطنة متساوية أمام النظام والقانون في الحقوق والواجبات، بعيداً عن العصبيات الضيقة وإقصاء الناس ونهب حقوقهم. والملاحظ أن المنادين بفك ارتباط الجنوب مع دولة الوحدة- المطالبين بالعودة الى الدولة الجنوبية التي كانت قائمة قبلها صاروا- يختلفون على الاسم الذي يجب أن تحمله تلك الدولة، حيث لا يمانع بعضهم من أن تظل تحمل اسمها القديم (جمهورية اليمن الديموقراطية)، بينما يرفض آخرون تلك التسمية ويفضلون العودة الى التسمية الاستعمارية التي أطلقت على الجنوب قبيل استقلاله (الجنوب العربي)، وهي التسمية التي يرفضها طرف ثالث لكونها ستظل تذكرهم بجهة الجنوب حتى وإن أطلق عليه صفة العربي وليس اليمني، وبدأ بعضهم يتحدث عن الهوية الحضرمية لكامل أراضي الشطر الجنوبي السابق، بينما يرى آخرون أن إدخال المحافظات الغربية من بلاد الجنوب ضمن تسمية حضرموت فيه نوع من المبالغة التي تتعارض مع حقائق التاريخ والجغرافيا. لذلك فقد ظهر في الفترة الأخيرة من يتحدث عن بلاد عدنوحضرموت، بحيث تشمل تسمية عدن الكبرى القسم الغربي من الجنوب بينما تشمل تسمية حضرموت الكبرى القسم الشرقي منه. وبتتبع الظهور التاريخي لاسم اليمن سنجد أنه في الأصل تسمية جنوبية، حيث ظهر لأول مرة في لقب التبع الحميري الأول شمر يهرعش في أواخر القرن الثالث الميلادي عندما تمكن من توحيد الممالك اليمنية القديمة الثلاث المتبقية في عصره (حمير وسبأ وحضرموت) وأطلق على نفسه اللقب الملكي التالي «ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت (يمانة)». ويتفق المؤرخون على أن المقصود بيمانة التي وردت في لقبه هي مناطق الساحل الجنوبي المطل على خليج عدن الممتد من باب المندب إلى بلاد عُمان، وهي تسمية مقابلة لتسمية تهمت «تهامة» التي أطلقت في النقوش على الساحل الغربي ومازالت إلى اليوم. ثم ما لبثت تسمية يمنت «يمانة» أن امتدت تدريجياً نحو الشمال لتصبح مع ظهو الإسلام تسمية جغرافية لكل بلاد جنوب الجزيرة العربية بصيغتها الحالية (اليمن)، وإن كانت نسبة اليمنيين إلى الصيغة القديمة (يمانة) مازالت مستمرة إلى اليوم جنباً إلى جنب مع النسبة إلى اليمن بقولهم يمني ويماني. وهو ماجعل اسم الشحر يحل بدلاً عن يمانة كتسمية لسواحل اليمن الجنوبية في العصور الإسلامية، ولذلك يذكر ابن خلدون في كتاب «العبر» أن لقب التبّع كان يطلق على الملك الحميري الذي تمتد سلطاته إلى حضرموتوالشحر. إذن، تسمية اليمن هي تسمية لجنوب اليمن قبل أن تكون تسمية لشماله، وإذا ما قرر إخواننا في الجنوب بمختلف أطيافهم وعن كامل قناعة بالعودة الى دولتهم الشطرية – وهو ما لا نتمناه- وأصروا أن لا يجمعهم اسم واحد مع دولة الشمال، فما عليهم إلا التمسك باسم اليمن بصفته ماركة تاريخية وجغرافية مسجلة باسمهم، وليطلبوا من إخوانهم الشماليين أن يبحثوا لهم عن اسم بديل لكونهم هم الدخلاء على اسم اليمن وليس أبناء الجنوب. نختتم مقالتنا هذه بالتأكيد على أنه وقبل جلوس الأطراف المختلفة على طاولة الحوار واستبيان رأي أبناء الجنوب بخصوص الرؤى المطروحة لحل القضية الجنوبية، لا بد من حل القضايا المطلبية العادلة الناتجة عن المظالم التي تعرض لها أبناء الجنوب؛ مثل عمليات النهب المنظم للأراضي والتسريح الإجباري من الوظائف المدنية والعسكرية، بحيث تُنهى تلك القضايا بقرارات سياسية سريعة وجريئة بغرض التنفيس عن الشحناء التي صارت تملأ النفوس، حتى لا تشكل عوامل معرقلة لعملية الحوار السياسي وتلقي بظلالها على النتائج التي ستصدر عنه. لأنه من المهم أن يشعر أبناء الجنوب قبل جلوسهم على مائدة الحوار بأن أي وحدة قادمة لا يمكن أن تتم إلا في إطار من المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية، وفقاً لدولة مؤسسية يحكمها القانون، وتتوزع سلطاتها وثرواتها بصورة عادلة.