رغم ان موضوع الانتخابات الرئاسية المبكرة التي شهدتها اليمن يوم 21 فبراير قد أصبح من الماضي, حيث يقف الجميع اليوم أمام المهمات التالية للانتخابات ورغم ان كل الأطراف قد أكملوا احتفالاتهم بالنجاح الذي حققوه فيها سواءً من عمل لصالح الانتخابات وشارك فيها بايجابية أو من قاطعها, رغم كل ذلك فالحاجة تدعو كل طرف من الأطراف التي عُنيت بموضوع الانتخابات ان يعيد قراءة هذا الحدث السياسي الهام بكل ما رافقه, وان يتم التوقف إزاء عدد من الأمور التي رافقت الحدث وحصلت على هامشه وان يتم هذا العمل بموضوعية وشفافية وبعيداً عن (حمى) الانتخابات وضغوطها. هذه الدعوة للقراءة والتقييم لاتهدف ولا تعني بأي حال من الأحوال المساس بالنتائج المعلنة ولا بشرعيتها, فهذه مسالة حسمتها الإرادة الشعبية بوضوح لا لبس فيه. ما ادعوا لمناقشته ومراجعته والتفكر فيه بهدؤ ومسئولية هو ما رافق الانتخابات وطرح على هامشها وحدث إثنائها وهي مسالة تقع في صميم مهمات القوى السياسية والنضالية والثورية.
الانتخابات لم تكن عادية بل استثنائية بكل ما للكلمة من معنى في الشكل والمضمون, وكانت تمثل لكثير من القوى والأطراف ولأسباب وعوامل عدة ما يمكن اعتباره ابعد من موضوع انتقال السلطة من رئيس إلى آخر وإلا لما حصل خلالها الحراك السياسي والجماهيري وعمليات المقاطعة. حيث لم يوجد أي انقسام في المجتمع حول المهمة المباشرة للانتخابات بين مؤيد ومعارض فغالبية مطلقة من الشعب سعت وناضلت وضحت منذ زمن ليس فقط من اجل وضع نهاية لوجود علي عبدالله صالح على رأس السلطة وإنما أيضا من اجل تغيير النظام كله بمؤسساته وسياساته ونهجه وإرثه, وانه عندما طرح اسم عبدربه منصور هادي مرشحاً توافقياً للرئاسة رأى فيه الناس ولإعتبارات عديدة المؤهل لتحمل المسئولية ومواجهة أعباء وتحديات المرحلة الانتقالية الاستثنائية.
وكما سبقت الإشارة كان للانتخابات أبعاد أخرى, فعلى صعيد الجنوب مثلا ً جرى وعلى هامشها صراع حاد بين مشروعين سياسيين احدهما يمثل الجنوب والآخر كان يراد فرضه عليه. رأى أصحاب المشروع الأول ان مشاركة الجنوبيين في الانتخابات تعني قبولهم بالوضع القائم المفروض عليهم وهو ما يعد مناقضاً لإرادة الجنوبيين وتطلعاتهم ولكثير من التوجهات والشعارات القائمة, وان المبادرة الخليجية وما تلاها من إجراءات وخطوات قد تجاهلت القضية الجنوبية ولذلك فهي التي جعلت الجنوب بشعبه خارج اهتمام العملية السياسية القائمة, وما مقاطعة الانتخابات سوا تحصيل حاصل لتجاهل الجنوب وقضيته ونضاله, وان الجنوب لم يكن طرفاً ولا مشاركاً في ما جرى في الماضي من حوارات ومفاوضات واتفاقيات والتزامات.
المشروع السياسي الآخر كان يطرح ولو بالتسريب والتلميح بأن لا قضية جنوبية بعد إسقاط صالح عن السلطة وزعم ان انتخاب رئيس من الجنوب يعد كافياً لتعويض الجنوبيين عن أي إهمال أو تهميش لحق بهم. إلى ذلك تولد لدى الجنوبيين طوال السنة الماضية شعور بأن هناك من يعمل حثيثاً على إسقاط رأس النظام في صنعاء والحراك في الجنوب وعلى طريقة ضرب عصفورين بحجر واحد.
مجمل هذه العوامل وغيرها جعلت موضوع الانتخابات في الجنوب ينال هذا القدر من الاهتمام ويشهد الاحتقان الذي حصل فكل طرف كان ينظر إلى عمليات الانتخاب من زاوية تأكيد صواب مشروعية رؤيته أو عكسها, وقد قال الشعب في الجنوب كلمته وأرسل رسالته.
عود على بدء الدعوة إلى إعادة قراءة الحدث اعتبرها ضرورية ومهمة لكل الإطراف فالذي أيد وشارك بايجابية لم يكن هدفه ينحصر في موضوع نقل منصب الرئاسة, وكذلك الحال مع من دعا إلى المقاطعة وعمل لها لم يكن هو الآخر يريد المقاطعة للمقاطعة, فللجميع مشاريع سياسية مستقبلية ولم تكن الانتخابات سوا محطة أو أساس لعمل مستقبلي كبير وهام.
ولأجل هذه الغاية فلنا ان نتسأل هل ان ما حدث يخدم التوجهات المستقبلية أم ان البعض قد زرعوا مطبات وعوائق ليس فقط في طريق الخصوم أو من اختلفوا معهم ولكن أمام الجميع. اجتهد وأشير بإيجاز إلى الملاحظات التالية من واقع ما حدث في الجنوب: أولا: حدوث أعمال عنف وشغب إثناء الانتخابات من قبل أفراد وجماعات وقوى بعضها حسب على مكونات في الحراك السلمي والتي سبق لها أو لشخوصها الإعلان عن مقاطعة الانتخابات وبكل (الوسائل) وهو ما اعتبر دليل لم ينفع معه نفي المسئولية عما حصل والجهد اللاحق الذي قام به عدد من نشطاء الحراك. الطرف الثاني الذي تأكد تورطه في أعمال العنف تمثل في أجهزة في السلطة وقيادات في حزب المؤتمر, كان فعلهم خسيس ودنئ لأنهم ارتكبوا الحدث والقوا بالمسئولية على الحراك. أما المجموعة الثالثة فتتمثل في مجموعات من الشباب المندفع والمتحمس الذي عانى طويلاً وتحمل وضحى كثيراً (أكثر من 45 شهيد في عدن وحدها في اقل من عام سقطوا على يد الجيش والأمن) أي تقييم منصف لوضع هذه الشريحة لا يمكنه إلا ان يتفهم الدوافع والأسباب الكامنة وراء ما حصل ومازال قائماً مع إقرارنا ان لا احد يقر بما حصل ولا بحمل السلاح واللجوء للعنف لا من قبل الشباب ولا من غيرهم وبخاصة في المدن وبالذات عدن. ثانياً: ابتداء من يوم الانتخاب كان هناك عملاً سياسياً وإعلاميا محموماً وواسعاً لمواجهة نتائج نجاح المقاطعة في الجنوب وبالذات في عدن وحضرموت حيث جرى قلب الحقائق وتشويه الوقائع وافتعال بعضها اعتماداً على التزوير والتلفيق والتضليل وباستغلال الاهتمام السياسي والإعلامي الواسع بالانتخابات والسيطرة على مصادر المعلومات والوسائل الإعلامية وجرى أيضا استغلال ما حصل من إهمال وعنف وشغب والتصريحات العنترية للبعض في الحملة السياسية والإعلانية التي لم تكن وليدة الحدث وإنما كان معد لها من وقت مبكر, وجرى تنفيذ حملة سياسية إعلامية واسعة استهدفت الحراك السلمي الجنوبي بالتشويه والتحريض عليه لأهداف مريبة عدة تتجاوز مهمة مواجهة نتائج نجاح المقاطعة إلى ما هو ابعد. ثالثاً: وسائل إعلامية تابعة لبعض أطراف الحراك تعاطت مع الحدث بشكل يتنافى مع الرسالة التي كان يجب ان تنهض بها في إطار التوعية والتوجيه وجعل المقاطعة تعني كل الشعب في الجنوب, وكان عليها أو من يتولى مسئولية الإشراف على عملها ان يصون ويحافظ على وحدة المجتمع الجنوبي بكل تنوعه ورغم الاختلافات القائمة, وان تتجنب الوقوع في التهييج الإعلامي المنفلت المؤدي إلى تأجيج الانقسامات والتعارضات وإنتاج الجديد منها. قبل ان التطرق وبشئ من التفصيل للملاحظتين الأولى والثانية أتمنى مخلصاً ان تتعاطى السلطة والقوى السياسية مع إرادة المواطنين في الجنوب التي عبروا عنها يوم الانتخاب بروح ديمقراطية وبمسؤولية, وان لا يكون الجنوب ومدينة عدن بالذات على موعد جديد مع ما حصل بعد انتخابات 1993م من عمليات انتقام وعقوبات جماعية لازالت قائمة حتى اليوم. وان تجاهل كل المسئولين في السلطة والقوى السياسية لما تفرضه المسئولية إزاء من سقطوا يوم الانتخاب من مواطنين مسالمين وعلى أيدي قوات الجيش والأمن سواء بالتعبير عن الأسف لما حدث وتقديم واجب العزاء لذويهم أو الوعد بالتحقيق, وإقدام السلطة وبعد الانتخابات مباشرة على سحب أفراد الشرطة المدنية من شوارع عدن التي كانت تضم في قوامها أعداد من أبناء المدينة والجنوب واستبدالها بالشرطة العسكرية وهو إجراء لا يحدث غالباً حتى في أوقات الحروب وحالات الطوارئ, لا تعتبر مؤشرات لوجود النوايا الانتقامية واستمرار لسياسة القبضة الحديدية والقوة والقمع التي أُدير بها الجنوب منذ عام 94م وحتى اليوم. يتبع العدد القادم... *خاص عدن الغد