تعود البدايات الأولى لفكرة الوحدة بين الجنوب والشمال إلى النصف الثاني من الخمسينات حين تم تضمين تلك الفكرة في أدبيات بعض الأحزاب ذات التوجه القومي والماركسي في عدن التي تأثرت بالتيارات القومية كحركة القوميين العرب والبعث ثم فكر الثورة الناصرية فيما بعد ، بوصفه خياراً أيديولوجياً وطرح حينها في سياق مشروع قومي لا بوصفه مشروعاً يمنياً صرفاً كما تم تقديمه في الخطاب السياسي اللاحق .. خطاب حاجج بإعادة وحدة الشعب اليمن التاريخية . بعد أن أدرك دعاته فشل مشاريع الوحدة العربية الاندماجية . وقد لعب أبناء المناطق الجنوبية من الشمال ممن كانوا شمالي الهوى وقتئذٍ دوراً مركزياً في إذكاء هذه الفكرة ، وبالأخص بعد تمكنهم من تبؤ مراكز قيادية في صنع القرار في الجنوب ، إذ عبر فكرة الوحدة تلك تمكنوا من تحويل الجنوب إلى أداة تعكس تطالعاتهم نحو الهيمنة على مفاصل السلطة في صنعاء .. بعد أن هيمنت عليه قوى شمال الشمال منذ سيطرة الإمام يحيى على مقاليد الحكم بعد الانسحاب العثماني في العام 1918م واستمرار تلك الهيمنة حتى ما بعد الثورة ، وما تبعة من ظهور التمايز في المواطنة المصحوب بنعوت اللمز على من هم أقل نفوذاً .. وقد سُخرت كثيراً من إمكانيات الجنوب لتحقيق ذلك المشروع بداءً بزج الجنوب في صراع مسلح مع الشمال .. كان الأول في العام 1972م والثاني في العام 1978م .. صراعاً لا ناقة للجنوب فيها ولا جمل . ثم تأسيس ما سمي بالجبهة الوطنية في وقت لا حق بعد أن فشلت مشاريع اكتساح الشمال بالقوة العسكرية .
إذن فمنشأ فكر الوحدة كان أيديولوجيا نخبويا صرفاًً .. وتحول ذلك الفكر بعدئذٍ و بتأثير من التعبئة الإعلامية إلى فكرة حالمة في أذهان الناس ؛ فكرة ممزوجة بشعور انفعالي أخاذ ، فكر كان غاية الجنوبيين منه الخلاص من هيمنة الحزب الاشتراكي .. وبالمقابل كان غاية أبناء الشمال الخلاص من هيمنة حكم القبيلة والعسكر . تلك كانت أحلام الوحدة لا غير .
وقد جاءت الصدمة بعد أن أكتشف الجنوبيين بوصفهم الحلقة الضعيفة في المعادلة بعد بضع سنوات فقط من الوحدة خطأ ما كانوا يعتقدونه حقيقة عندما تبينوا بأن هناك بون بين فكرة الوحدة المتشكلة في أذهانهم وحقيقة الواقع على الأرض ، إذ أبانت الممارسة السياسية والاجتماعية عن طوباوية ذلك الوعي الوحدوي . الأمر الذي أثار مراجعات خطيرة حول حقيقة هويتهم ، بوصفه التعبير المكثف عن المأزق الذي أوصلهم إليه ذلك الفكر الوحدوي ؛ فكر اختزل التاريخ في الأيديولوجيا وحوله من مادة لتأصيل الحقيقة إلى مادة لتزييف الوعي .. فكر غيب منطق الصيرورة التاريخية - السياسي والاجتماعي - في تطور المجتمع ، ولم يميز بين مفهوم اليمن التاريخي الذي كان يحمل دلالة جغرافية صرفة حتى عند سكانه ( أنظر صفة جزيرة العرب للهمداني ص89) و المؤسس على الانتماء الأثنو - اجتماعي القبلي والمناطقي فقط . ومفهوم اليمن الحديث الذي يحمل دلالة سياسية وهو تطور ظهر حديثاً .
والمؤسس على أشكال جديدة للرابطة الاجتماعية مؤسسة على مفهوم الوطن مع بقاء رواسب للانتماءات الأثنو – اجتماعية القديمة بالطبع . وقد أخذ هذا التشكل الجديد تطوره المستقل في كل من الشمال والجنوب أفضى إلى تشكل كيانين اجتماعيين محددي الملامح والقسمات ؛ بوصفهما تعبيراً عن إدراك الناس التاريخي لواقعهم والاجتماعي . ونحن هنا لسنا استثناءً في هذا التطور ، فعمان التاريخية غير عمان اليوم ، سوريا التاريخية غير سوريا اليوم ، والهند التاريخية غير هند اليوم وهكذا .
ومن ثم فيمن الأمس غير يمن اليوم المحدد القسمات المؤسس على شروط جديدة للوجود السياسي والاجتماعي لعل أهمها مفهوم الشعب بوصفه رابطة أثنو - اجتماعية . وتبعاً لذلك فإن اجترار الأدوات القديمة سواءً كانت جغرافية أو تاريخية وإسقاطها على واقع سياسي واجتماعي وثقافي مغاير لتبرير فكر الوحدة من خلال الإدعاء بواحدية الشعب منذ تلك الأزمان القديمة .. هو عمل من أعمال الأيديولوجيا الصرف ، وفيه تحميل سياسي للمادة التاريخية أكثر مما تحتمل .... وهو طرح أخفق في أن يؤتي أكله اليوم إزاء الأسئلة المثارة حول حقيقة واحدية الشعب منذ أزل التاريخ ؛ لأنه طرحاً أختزل التاريخ في الأيديولوجيا . ولنا لقاء آخر إن شاء الله مع الجزء الثاني.