لا يبدو أن القيادة العتيقة لجهاز الأمن السياسي ترغب في اعتزال العمل المخابراتي رغم سلسلة الإخفاقات التي رافقت مسيرة غالب القمش المخابراتية على مدى ثلاثة عقود، تقريبا، بل إن قراءة متأنية لتحركات الجهاز وقيادته تكفي لمعرفة أن الجنرال غالب القمش يسير باتجاه إعادة إنتاج سلطته بعد سنوات من الفشل. المرحلة تقتضي إزاحة القمش عن كاهل هذا الجهاز وإحالته إلى التقاعد – تقاعد إجباري- على الأقل لإثبات القليل من النزاهة في محاربة الإرهاب، هذا الغول الذي يهدد بابتلاع ما تبقى من ملامح دولة توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. أثبت تنظيم القاعدة إمكاناته الجديدة بوصوله إلى عمق العاصمة صنعاء وتنفيذ عمليتين نوعيتين، وقبلها إلى قائد المنطقة الجنوبية اللواء سالم قطن، ووزارة الداخلية والأجهزة الاستخباراتية تقول إنها حققت سلسلة نجاحات أمنية ، فيما هي في الواقع؛ فشلت أو تكاد، دون وضع حد لتهديدات القاعدة. عند استدعاء الرئيس هادي لرئيسي جهازي الأمن القومي والأمن السياسي، قالت بعض وسائل الإعلام إن رئيسي الجهازين أطلعا هادي على تقرير مفصل بالنجاحات الأمنية التي تحققت في الفترة الأخيرة! ومن تلك النجاحات القبض على عدد من خلايا تنظيم القاعدة من بينها الخلية التي خططت لعملية السبعين، بالإضافة إلى خلية (السنينة) القريبة من منزل الرئيس هادي، والتي وصفها تقرير الأمن السياسي ب"الخطرة"، غير أن الأخطر هو أن يصف التقرير خلية السنينة ب"الخطرة" مقارنة بقربها من منزل الرئيس وبهدف رؤساء تلك الأجهزة في عرضها عليه وتقديمها كخلية استثنائية من حيث الخطورة. لشهور خلت، يُلاحظ تقادم تحذيرات، مصدرها جهاز الأمن السياسي، للرئيس هادي من وجود مخططات لاغتياله، بمبرر الحرص على حياته، فيما هي في الأصل -التحذيرات- لا تخرج عن سياق مخطط عزل هادي وتطويق منزله( لان السيطرة على تحركات الرئيس تعني بالضرورة التأثير إن لم يكن التحكم بقراراته) بدءا من إحلال قيادة الفرقة لمئات الجنود وعدد من الآليات العسكرية في فناء منزل الرئيس بدعوى الحماية. ولأنه أمر قد تم فعلاً، فإنه ينم عن نزعة استحواذية تناضل من اجل إخضاع الدولة لسلطة الأجهزة الأمنية والعسكرية القديمة وبالتالي نجاح مخطط إعادة إنتاج مراكز النفوذ القديمة وقياداتها المهترئة "الفرقة الأولى وجهاز الأمن السياسي" وإحداث حالة من عدم الثقة بين الرئيس هادي والمؤسسات الحديثة الأخرى نتيجة هذا العزل. الرئيس هادي لم يستدع القمش والآنسي لتهنئتهما على النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية، بل لسؤالهما عن النجاحات التي حققها تنظيم القاعدة مؤخرا-وهذه هي الحقيقة التي لا يستطيع القمش إنكارها- وكان أبرزها عمليتي السبعين وكلية الشرطة و نجاح 25 من أعضائه، بينهم قيادات كبيرة، في الهرب من سجن الأمن السياسي بمحافظة الحديدة، وقبلها بأيام قليلة نجاح عشرة من سجناء القاعدة في الفرار من سجن المنصورةبعدن. ولأن رئيسي جهازي الأمن السياسي والأمن القومي هما من يتحملان مسئولية النجاحات التي حققها تنظيم القاعدة، فقد عمدا مضطرين قبل أيام قليلة من اللقاء بالرئيس هادي إلى اختلاق نجاحات أمنية تقلل من وقع نجاحات تنظيم القاعدة، بالإضافة إلى الإعلان عن نجاحات سابقة تمثلت في إلقاء القبض على خلايا تضم عشرات من عناصر القاعدة، و إحباط عدد من العمليات كانت القاعدة تعتزم تنفيذها في العاصمة صنعاء. لكن تنظيم القاعدة لا يزال قادرا على الوصول والضرب في العمق، وفي المكان والزمان اللذين يحددهما هو وبأريحية مطلقة رغم ما تقول الأجهزة الاستخباراتية أنها نجاحات حققتها في التصدي للإرهابيين. قبل أيام فقط تمكن خمسة أعضاء بارزين (من القاعدة) من الهرب من أحد السجون التي تفرض عليها حراسة مشددة، وقبل عملية الفرار هذه، استطاع اثنان من عناصر التنظيم الهرب من أحد السجون في عدن. والمحصلة ثمانية و ثمانون مسلحا مشتبها في انتمائهم لتنظيم القاعدة تمكنوا من الهرب من سجون الأمن السياسي خلال الأربعة الأشهر الماضية فقط. عمليات الفرار المتتالية لعناصر القاعدة من سجون الأمن السياسي تضع هذا الأخير في خانة الشك؛ قد يكون من غير الواضح بدقة حتى الآن الجهة التي تقوم بتسهيل عمليات الفرار هذه، إلا أن بعضها كشف عن ملابسات إن لم يكن تواطؤا لبعض الجهات الأمنية مع عناصر التنظيم. حادثة فرار (23) قيادياً جهادياً من سجن الأمن السياسي كانت الشاهد الأبرز على تواطؤ الجهاز الذي لا يكف عن تأكيد اتهامات الاختراق، وربما علاقته بالتنظيم، وعدم جاهزيته للقيام بدور فعال في محاربة القاعدة.. والأمريكيون على دراية تامة بأن جهاز الأمن السياسي لن يتعاون معهم في محاربة القاعدة لأسباب عدة أهمها اختراق الجماعات الدينية والجهادية ووجودها في تركيبة ومفاصل الجهاز، ولذا طلب الأمريكان وقد تمكنوا بداية من فتح فروع لوكالة الاستخبارات الأمريكية في كل من صنعاءوعدن، ومنحت هامشاً من الحرية بما يمكنها من جمع أدلة ومعلومات وبيانات عن المشتبه بهم وكذا رموز الجماعات الجهادية وغيرها من الشخصيات المنتمية إلى الجماعات الدينية المتطرفة الأخرى. الآونة الأخيرة لوحظ أن تنظيم القاعدة سلك باتجاه تنفيذ عمليات عشوائية ومركزة في آن، لكن بعض الأطراف تستغل سلطتها لإخفاء مبلغ الخطر الذي يمثله التنظيم رغم بشاعة العمليات الانتحارية التي ينفذها من وقت لآخر، وحتى وقد عزز التنظيم قوته البشرية وموارده وسيطرته على الأرض خلال عام من الاضطرابات السياسية ونفذ وتبنى أكثر من عملية انتحارية أودت بحياة أعداد كبيرة من الجنود مستغلا الغطاء السياسي والإعلامي الذي وفرته له بعض القوى، وغياب سيطرة الحكومة وعجز الأجهزة الأمنية وتواطؤ بعض الجهات في تسهيل مهماته لشن هجمات مباغتة تستهدف وحدات معينة من الجيش والأمن. قبل أيام قليلة مضت، أودى تفجير يعتقد أن تنظيم القاعدة يقف خلفه، بحياة عدد من طلاب كلية الشرطة وجرح آخرين أثناء خروجهم من الكلية، والجديد في العملية التي جاءت عقب عملية قاسية استهدفت سرايا من قوات الأمن المركزي في ميدان السبعين أنها استهدفت من لم يكونوا في السابق هدفا لتنظيم القاعدة، وهو ما دفع البعض إلى التشكيك بعلاقة تنظيم القاعدة بها. تعلن القاعدة عادة عن مسئوليتها على العمليات التي تنفذها مرة واحدة فقط وتورد اسم منفذ العملية وتسجيلا مصورا للانتحاري يحمل وصيته، لكن عقب العمل الإرهابي الذي وقع بميدان السبعين وتبناه التنظيم نشرت المواقع الإلكترونية بيانين متناقضين وكلاهما نسبا لتنظيم القاعدة حول العملية. أحدهما قال إن الحادث يأتي انتقاما من الحملة العسكرية ضد معاقل القاعدة في أبين وكشف عن اسم الانتحاري الذي نفذها، والثاني قال إنها- العملية- انتصار لشباب الثورة من الذين قاموا بقتلهم! وأورد اسم شخص تبين فيما بعد أن لا علاقة له بالعملية ولا بتنظيم القاعدة. في المقابل لم يصدر عن التنظيم حتى الآن بيان رسمي يثبت أو ينفي علاقته بعملية كلية الشرطة الأخيرة وليس بعيدا أن يكون التنظيم وراء العملية، غير أن التنظيم يعلم جيدا أنه خسر الكثير من المتعاطفين بعد عملية السبعين، وقد لا يجازف بخسارة مشابهة من وراء عملية خالية من أي مكاسب كهذه. تاريخ القاعدة الأصل ومقرها في أفغانستان يقول إنها لا تنفذ عمليات "استشهادية" ضد أهداف ما لم تكن أمريكية أو لنقل غربية. كما أن تنظيم القاعدة يدرس باهتمام كبير المكاسب والخسائر التي قد يحصل عليها أو تلحق به من وراء عملياته التي تستهدف جنودا، ثم يُقدم أو يحجم بناء على نتائج دراسته، ومن غير المنطق ولا حتى المعقول أن قيادة التنظيم تعتقد أن قتل جنود الأمن المركزي أو الحرس الجمهوري : سير في ذات الطريق المؤدية إلى الله. وعلى العكس من القاعدة "الأم" تنفذ قاعدة اليمن"مؤخرا" عملياتها بطريقة توحي بشكل أو بآخر أنها هي الأخرى قوة التحقت بمعسكر" الشعب يريد إسقاط النظام" لقاء تعهدات من بعض رموز هذا الحلف الذي يلتقي مع القاعدة عند نقطة و"أعدوا" بتقديم الدعم اللازم لها لتثبيت أقدامها في مرحلة ما بعد "انتصار الثورة" بغية الوصول لهدف مشترك وهو إقامة الدولة الإسلامية.
ومهما يكن فإن تقادم عمليات القاعدة واتساع خارطة نشاطها في مشهد ضبابي كالذي نعيشه امتحان صعب لمُثلنا العليا، لأنه قد يؤدي بالضرورة إلى انهيار تام لليمن وتسليمها بسهولة للمتشددين الذين يرون كل مواطن بسيط لا يتبنى أسلوب حياتهم زنديقا وكافرا وجاهلا لا يفقه من أمره شيئا.. فنذهب مجبرين لمبايعة التنظيم حفاة بدون أحذية، حتى يكتمل شرط البيعة!