في زمن التحولات المذهلة, يرفع العقل راية الاستسلام منكسرا امام طلاسم التغيير العتية على فهمه لعمق الانقلاب الفكري, والتحولات السياسية الحاصلة, وما تناولنا لتلك التحولات العميقة في مقالة صحفية الا جزء من ذلك التحول الذي شمل كل شيء بما في ذلك طرق الرصد والتعبير, فالمجال الطبيعي لرصد هكذا مفاهيم هو البحث والتضمين في كتاب, لكن عصر السرعة والاختزال يجبرنا على تلخيص ما نستطيع لعرض ما نود في مجرد مقالة, نضمنها مفاهيم التغيير التالية. اولا: الثورات محل الانقلابات: مع انحسار الأيدولوجيات الحزبية, وارتفاع مستوى التشويش لمنهج الحركات الدينية, وتخلف وبشاعة السيطرة المطلقة للحاكم الفرد والعائلة والقبيلة والطائفة على المؤسسات الانقلابية في العهد السابق والمتمثلة بالجيش والامن, وما حولها من مؤسسات الاقتصاد والاعلام والثقافة والتعليم, وكل ما يمكن للاستثمار الى يتناوله, وتغليف تلك السيطرة بثقافة الاستهلاك الشهوانية التي افرغت شهواتها في جسد الفساد السياسي الذي طال كل مكامن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفرد في بلدان الربيع العربي, وبكل تلك القتامة اغلقت الدكتاتوريات المتخلفة ابواب التغيير بما في ذلك الانقلابات, فكان لابد من انفجار تلك العوامل في الشارع, وهو ما حدث بالفعل وعبرت عنه بأوضح الصور ثورات الربيع العربي. ثانيا: الخارج الصديق محل الخارج المتآمر: من التحولات الجديرة بالذكر ما يتعلق بالنظرة السلطوية الحالية للخارج, وانتقال تلك الرؤية من زمن العدو الخارجي المتآمر الى زمن الحليف الاستراتيجي, فلو اخذنا الوحدة اليمنية كمثال للمشروع السياسي المعبر عن هذا التحول سنجد ان الوحدة كانت هدف ومشروع وطني يتأمر الخارج لإفشاله والخطر الاكبر عليه يتمثل في الخارج, اما اليوم وبفعل هذا انقلاب المفاهيم الرهيب اصبح الخارج هو الضامن الاول لبقاء الوحدة, حتى ترسخ لدى جزء كبير من مكونات الوعي الجمعي ان مشروع الوحدة اليمنية لا يمكنه الصمود عدة أيام لو تخلى الخارج عن الاعتراف والدعم السياسي لهذا المشروع, بل انه قد لا يصمد لساعات وليس ايام فيما لو تقدم الموقف الخارجي ولم يكتفي بإيقاف الدعم بل تبنى الخيار المضاد والمتمثل في الانفصال. ثالثا: المغالطات محل الحرفة والمفاوضات: ولعل هذا من ابشع التحولات ويعكس انحدار الوعي السياسي في مخالفة صريحة لقوانين الوعي التي تقتضي ان يكون الوعي السياسي في الالفية الجديدة افضل ادراك للواقع من سابقه, بمقتضى ان ذلك الوعي اصيل ونابع من صميم المجتمع المحلي, ومع ذلك نجد من الشواهد والمفارقات ما يثبت مدى الهشاشة التي وصل اليها الوعي السياسي اليمني سواء كان من جهة النخب الحاكمة او النخب القائمة بدور المعارضة و صولا الى النخب الضائعة بينهما, وبمراجعة سياسية سريعة لوثيقة العشرين نقطة التي اعتبرت اساس للبناء السياسي الجديد في اليمن, وبالمنطق السياسي القائم حاليا اعتبر جزء كبير من تلك النقاط بانها تنازلات لحل القضية الجنوبية, يقدمها الطرف السياسي الحكيم الهادف الى الحفاظ على الوحدة اليمنية ولو كلفة ذلك التضحيات الجسيمة الواردة في النقاط العشرين, وفي هذا مفارقة عجيبة تبعث على التذمر من فداحة التحولات السياسية التي نعيشها, وتعزز مخاوفنا من ان تصبح تلك النماذج ثقافة سياسية حقيقية ودائمة, وعندها سيكون هذا المجتمع قد وصل الى درجة العقم السياسي الحقيقي والتي يصبح معها الامل بحاضر جديد ومحترم ضرب من ضروب الخيال, فكيف يكون اعادة الموظفين والعسكريين المسرحين قسرا عقب حرب 94م, واعادة الاراضي المنهوبة, واعادة اصدار الايام التي اغلقت ظلما وعدوانا, واعادة الاراضي والمؤسسات المنهوبة...الخ من الحقوق, تنازلات سياسية يستوجب على اثرها ان يهرول الطرف السياسي الجنوبي الى الحوار مهللا ومكبرا لحجم الانجاز الذي جناة من هذا التنازل السياسي المغلوط. ما ذكرناه يمثل صور ملخصة لبشاعة التحولات السياسية السلبية التي نعيشها اليوم, وان كانت تلك الصور تبعث على التشاؤم وتزيد التخوف من توقعات المستقبل لمناطق الاضطراب العربية بما فيها اليمن, وبين التشاؤم والخوف يسكن في قلوبنا ايماننا بالله وبحكمته التي لا يدركها الا هو سبحانه وتعالى, وبانه سيجعل في ذلك خيرا, وان بعد العسر يسر. [email protected]