سمعت أحداث واقعة الخندق العديد من المرات و لكني و الله على ما أقول شهيد لم أسمعها في مثل خطبة هذه الجمعة التي أبدع فيها شيخنا الجليل الله يحفظه من كل عين حاسدة و من كل شر لمتربص، لم أسمع بهذه الواقعة على هذا النحو من الإبداع و الجمال و التشويق و بهذا السرد المتسلسل و اللسان الفصيح و الصوت الذي يملىء السكون بتناسق تام يتسلل من خلال الأذن بكل لطف رغم قوته و ينساب إلى القلب بسلام، رغم تعدد المشاعر من رعب و حزن و إستحسان و شعور بالفخر و العزة، زخرت بها أحداث متنوعة في هذه المعركة العظيمة التي سميت بغزوة الخندق لأن المسلمين قاموا بحفر خندق فيما تبقى من ثغرات تحيط بالمدينة بعد إن تكفلت الجبال و الأشجار في تحصين جزء من المدينةالمنورة.. و سميت كذلك بالأحزاب لتجمع اليهود و أهل الشرك و الكفر حين بدأ يهود بني النضير بتأليب القبائل العربية وتجميعها لأجل مهاجمة المسلمين والقضاء عليهم عن بكرة أبيهم، فتجمعت قريش وكنانة وغطفان و إنضمّ إليهم يهود بني قريظة الذين كأنوا على عهد مع المسلمين ولكنهم نقضوه.. كما أن فيها من دروس القيادة الميدانية من عظيم الدروس حيث القائد يربط على بطنه الحجر ليضغط على معدته حتى لايشعر بالجوع.. و فيه القائد المتواضع الذي يتشاور مع صحابه.. يجوع معهم و يتخندق بجأنبهم و يحفر معهم و يتعفر بالتراب مثلهم و تعتبر هذه المعركة من أخطر المعارك لأن فيها كأنت الخيانة من قبل اليهود الذين كأنوا يعيشون في المدينة و خذلان من المنافقين الذين كأنوا في صف المسلمين... تأزم الموقف بشكل كبير فلم يعد في صف المسلمين أحد من المنافقين بعد إن شككوا بصمود المسلمين.. وبذل المسلمون قصارى جهدهم مع إنهم لم يذوقوا الطعام لثلاثة ايام متواصلة من أعمال الحفر للخندق، حيث عمل رسول الله برأي سلمان الفارسي و حفر الخندق، في مكيدة لم يعرفها العرب من قبل في فنون القتال.. تم ذلك في وقت قياسي، تحملوا في سبيل الله الجوع والبرد، حموا الخندق، ودافعوا عنه بأرواحهم، جاهدوا بضرأوة، تعبوا، كافحوا ، قاموا بالمشاورات، وإبتهلوا في الدعاء.. وصل إلى حدود المدينةالمنورة عشرة آلاف مقاتل مشرك.. بينما لم يكن خط دفاع رسول الله حفر الخندق فقط، بل جمع ثلاثة آلاف من الصحابة، ونظم نقاط الحراسة للخندق، وفرق للقتال، وكتائب للمقاومة، حتى يمنع المشركين من تخطي الخندق تحت أي ظرف... و مع ذلك نجح بعض المشركين فعلاً في العبور من مكان ضيق في الخندق بفرقة على رأسها الفارس الصنديد المرعب عمرو بن عبد ود فتصدى له علي أبن ابي طالب في مبارزة شرسة حبست لها الأنفاس حتى قتله فكبر المسلمون و فر من تبقى من المشركين.. نعيم بن مسعود.. هو الرجل الآخر الذي كأنت له البصمة الكبرى في هذه المعركة و هو من أبرز عناصر هذا الإنتصار.. كأن نعيم بن مسعود رجل من المشركين من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، أراد الله أن بهدي هذا الرجل و يشرح قلبه للإسلام في هذا الوقت العصيب فينسلخ من الجيش القوي المحاصر للمسلمين، بعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمين في أي لحظة وخاصة بعد خيانة اليهود.. جاء نعيم بن مسعود إلى الرسول يقول له: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت. فقال رسول الله "إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ". ترك له حرية التصرف، فشاء الله أن يلهمه بفكرة لم ترد على ذهن أحد من المسلمين، ولا رسول الله نفسه.. فذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وقال لهم، وهم يحسبونه مشركً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، أقنعهم بأن قريش و غطفان قدموا لقتال المسلمين من خارج المدينة فإن إنتصروا قطفوا ثمار ذلك النصر لهم.. و إن إنهزموا تركوكم تواجهون إنتقام محمد و المسلمين و رحلوا إلى ديارهم.. فقالوا: وما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم ذهب نعيم إلى قريش مباشرةً، وقال لهم: إن يهود بني قريظة قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدٍ وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم كرر نفس الكلام لقومه من غطفان... قريش شعرت بالقلق وكذلك غطفان، أرسلوا رسالة سريعة إلى اليهود وبتدبير من رب العالمين، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الحوافر والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فاعتلت اليهود بالسبت وقالوا: لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن. قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود، وقالوا: إنا والله لا نرسل إليكم أحدً، فانهضوا معنا نناجز محمدًا. فقالت اليهود: صدقكم والله نعيم. فدبت الفرقة بين الفريقين، وتفتت الأحزاب،وهكذا، بحكمة الله وتدبيره، يسلم نعيم بن مسعود في هذا الوقت، ويلهمه الله بالفكرة التي ينجح بها في تفتيت الأحزاب.. الريح كأنت جندي هائل من جنود الرحمن: بعث الله ريحًا شديدة وقاسية البرودة على معسكر الكافرين لم تترك لهم خيمة إلا واقتلعتها، ولم تترك قِدرًا إلا قلبته، ولم تترك نارًا إلا أطفأتها، ووصلت شدة الريح وخطورتها إلى الدرجة التي دفعتهم لأخذ قرار العودة دون قتال وفك الحصار. نحن نؤمن بالله و نسلم بحكمته و لانريد الخوض في لماذا لم تأت الريح منذ اليوم الأول؟! لماذا انتظرت شهرًا كاملا؟ و لكنه تعالى من لايسأل عن عمل أشار في محكم كتابه ليميز المنافقين عن المسلمين و ذلك ماتم في شهر الفرز من الحصار.. رسالة إلى الإعلاميين و المثقفين أن يتصدوا لأولئك الذين ينخرون في الدين تحت صور و جلابيب نفاق و كفر كثيرة.. علمانية و حداثة و تطور أو إلحاد صريح.. إن من يسخر قلمه لفضح و التصدى لإرهابي الفكر الحاقدين على الإسلام فهو مجاهد.. إن القلب يخفق و يهفو و العين تدمع و تطلب و اليد ترفع و تتضرع... اللهم إجعل قلمي قلم يعيد للدين مكانته في قلوب المنحرفين، و يعيدهم إلى الصواب.. و بعيد الجهلة إلى العقل... إنها تلك العبارة التي حث بها رسول الله نعيم إبن مسعود بأبي و أمي و روحي و أولادي و مالي و حياتي هو حين قال له: (فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْت) أي أصرفهم عنا بكل خداع الحرب