حين كنت صغير، وقبل دخولي المدرسة، أرسلني والدي، إلى الكتاب او (المعلامة )، وتنقلت، من معلامة الى اخرى، وهم كثر، وظاهرة، في ذلك الوقت، ومنتشرة في المساجد، وبعض البيوت في عدن، وكان أولياء الأمور، يرسلون أبنائهم، قبل المدرسه، إلى المعلامة.. وكما هو معروف، ان المعلامة مكان لتعليم النشئ، مبادئ القرائة والكتابة، وكان أغلب المعلمين، هم من حفظة القرأن الكريم، و من أئمة المساجد، هم من يمارسون تلك المهنة في المساجد، وكنت قد تنقلت كثيرا، من معلامة الى آخرى، ولم أفلح في القرائة، حتى استقر بي الحال، في مسجدنا القريب من بيتنا، بعد أن جاء، معلم شاب في العشرين من العمر، الأستاذ فارع، جاء من شمال اليمن، طالب علم، ومدرس للغة العربيه في إحدى المدارس، وكان امام مقيم في مسجدنا.. وكنت من تلامذته، قبل دخولي المدرسه، فعلمني فأحسن تعليمي،فكان له الفضل، ان علمني القرائة و الكتابة.. وحفظ القرأن.. بعد ان عجز ، من كان قبله من المعلمين، حتى صرت نهما في القرائة، وشغوف في استبيان الحروف، المتراصفة، وهي تتشكل كلمات وعبارات، في سطور تتماهى بها صفحات الكتب ... فكان جلوسي في المسجد، قربني اليه اكثر، وحبب الي القرائة، فكنت اتصفح كثيرا مجلة الاطفال ميكي وسمير، وروايات في كتب صغيره تسمى المغامرون الخمسه، كان يحضرها خالي اسبوعيا، من مكتبة الشيباني الشهيرة في الشيخ عثمان، الا انها لم تشبع نهمي وشغفي للقرائة ،حتى سمح لي مرة، الأستاذ فارع، بالدخول الى الغرفة المقابلة لجلوسنا... وهي صومعته، التي يخرج منها عادتا، عند حضورنا اليه، فشاهدت مخبأئه الذي ينهال منه العلم.. وكمية من الكتب الكثيرة.. ومجلدات.. مرصوفة، على رفوف من الخشب، تمتلى بها جدران الغرفة حتى بلغت سقفها، والبعض منها، كان قد وضع على الارض، فادهشني ذلك المنظر، وكمية الكتب التى كان يملكها،فعرفت السر الذي جعل منه ذلك ..الأستاذ البارع في اللغه، وألعارف في الأدب، والحافظ للكتب التاريخ، وداوين الشعر ، واصول الدين والفقه ، معلم فاضل، وأمام خطيب في المسجد، واعظ، متواضع، لايزجر في الحديث، فيه من الصفاء والحلم،لم يكن خجولا ولكن احيانا كان يغلب عليه الحياء ،بعدها بمدة سمح لي ايضا، الجلوس معه في مكتبته، ورغم حداثتي و صغر سني، إلا انه كان يعاملني معاملة الكبار، وسمح لي ايضا، ان استعير بعض من كتبه، فكنت كلما قراة كتاب، سألني عن محتوى الكتاب،فضول المعلم، بأسلوب المربي، الذي يجتهد بإيصال المعلومة، إلى تلميذه..وعادتا بعد الانتهاء من صلاة العصر، كنت أنتظر بلهفة، دخوله إلى صومعته فاتبعة باستحياء، واظل واقف بالباب، حتى يأذن لى الدخول" ويسألني؟ وأنا أنظر، إلى عناوين الكتب المصفوفة، على الرف فاختار كتاب، يشبع نهمي وفضولي للقرائة، فاخرج وانا سعيدا في تلك اللحظة، وأنا ممسك بالكتاب بين يدي، فتلك كانت لحظات السعادة عندي في ذلك الوقت، ولكن احيانا لحظات السعادة لا تدوم ..تكون مثل الغيث عند كل موسم، وفي الحياة هناك متغيرات وأشياء، قد لانفهمها ونحن صغار.. ولكن تظل الحياة مستمرة، طالما هناك الامل موجود، طالما الغيث ينزل عام وأن تأخر عام وأتى عام اخر، فالانسان مهما تعلم خط الاحرف، وكتابة الكلمات، ونطق لسانه احرف الهجاء، فان ذلك الفضل يعود للمعلم، الذي سلك لنا السبل، الى حياة اخرى، واضأء لنا الطريق، نور نمشي عليه، فكان الأستاذ فارع ، مثل ذلك الضوء الشارد في جنوح الظلام .. حين نراه بعيد.. ولا نصل إليه.. ولكننا نركض نحو ذلك الضوء الشارد حتى نلحق به .. كانت عدن في ذلك الوقت، تتوالى فيها الاحداث، وتنذر بمستقبل صعب ، فالكل كان يترقب جيدا لما يحدث في عدن، من صراع على السلطة ،وفي يوم كانت عدن كالرمضاء وهي تستجير بالنار، حتى صدق فيها المثل، فحزم الاستاذ حقائبه وغادرنا.. او فر خائفا ..من مصير مجهول....فر الأستاذ فارع.. تارك مسجده، ومنبره، وصومعته الصغيره، وتلميذه الصغير الذي أحيا فيه الأمل..وفتح له نافذة صغيرة.. ينظر منها الى حياة غير التى كان يعيشها.. وضوء شارد.. يتسلل منه النور ...