في صنعاء، المدينة التي تحوّلت إلى سجن مفتوح، لا تزال الجدران تحتفظ بصدى أصوات الأمهات والزوجات اللواتي انطفأ انتظارهن قبل أن يعود الغائبون؛ قلوب انكسرت، وأرواح صعدت، وبيوت ما تزال معلّقة على رصيف أمل لا يأتي. دموع خلف القضبان في زنزانة مظلمة ومجهولة، يقضي السبعيني "محمد حسن دماج" سنواته محاطًا بقيود الحديد والأسى، بينما كانت زوجته تلفظ أنفاسها الأخيرة في أحد مستشفيات صنعاء؛ لم تسمح له المليشيا الحوثية بتوديعها، ولا حتى بإلقاء نظرة أخيرة. ابنهما "عادل" كتب بعد رحيلها: "رحمك الله يا أعزّ ما في الدنيا". أما الناشط "حمزة الكمالي"، فعبّر بمرارة: "كيف سيُخبرونه؟ بأي كلمات سيلقون هذه القنبلة في زنزانته؟"، سؤال تختصر إجابته قسوة مليشيا ارهابية حوّلت الوداع الأخير إلى حلم مكسور، ورسائل مؤجلة لا تصل. زيارة لم تكتمل من الحديدة إلى صنعاء، حملت "رباب" حقيبتها الصغيرة وفيها فستان جديد، وعلبة طعام، وصورة العيد الأخير قبل اختطاف زوجها. لم تكن تعلم أن رحلتها ستنتهي على لغم أرضي زرعته المليشيا الحوثية الارهابية. وقبل أن تُغلق عيناها للأبد، همست للمسعفين: "خذوني إلى صنعاء... دعوني أراه ولو بعين واحدة". لكنها رحلت في المستشفى، ولم يعلم زوجها أن زوجته قضت قبل أن تصل إليه. مخطوطة حزن أم "أسامة" لم تغب عن باب السجن طوال أربع سنوات، تحمل الطعام والأمل معًا. كانت تؤمن أن ابنها سيعود قريبًا، لكن الأيام تحوّلت إلى سنوات، وأملها تآكل حتى سقطت ذات يوم أمام بوابة السجن بجلطة قلبية. في لحظاتها الأخيرة، طلبت من زوجها أن يكتب رسالة أخيرة لأسامة، لكنها لم تكتمل؛ بقيت أوراقها على الوسادة تقول: "أسامة... اشتقت لرائحة شعرك، لضحتك، البيت مظلم من دونك". لن أزعجك مرة أخرى اختفى "عبد الله"، وظلت زوجته تبحث عنه، تطرق الأبواب وتبيع ما تملك في سبيل أمل لا يعود. حتى بصرها خذلها من كثرة البكاء. في النهاية، جلست على كرسيها المتحرك تحدّث صورته قائلة: "عبد الله... هل قتلوك؟ هل جائع؟ حي أم ميت؟" رحلت دون أن تعرف مصيره، ولم يعلم هو أنها فارقت الحياة، تاركة خلفها أسئلة لا أجوبة لها. ماتت قبل الممات كانت "أم سليمان" تذهب إلى المقبرة كل جمعة، تجلس بجوار قبر فارغ أعدّته لنفسها وتناجي ابنها الغائب: "سليمان، طبخت اليوم ما تحب"، لكنها ذات يوم، لم تعد. وجدوها جالسة، مائلة الرأس، ميتة والدموع جامدة في عينيها. همسة أخيرة الطفل "محمد" (13 عامًا) يعيش مأساة مركبة؛ والده المعتقل لا يعلم أن والدته ماتت، ووالدته ماتت دون أن تعرف ما حلّ بزوجها. يقول: "كانت أمي توقظني ليلًا وتقول لي: هل تسمع خطوات أبيك؟"، ثم يضيف: "في آخر يوم جمعت صور أبي ووضعتها في شنطة تحت السرير... الآن أفتشها كلما اشتقت إليه. الحوثيون لا يسمحون لنا بالبكاء ولا حتى بسرد الحكايات". ركام تحت التراب في سجون صنعاء، معتقلين لا يعرفون أن أحبّاءهم قد ماتوا، ونساء رحلن دون أن يعرفن أن أزواجهن لن يعودوا. في حي "مسيك" وحده، توفيت سبع نساء العام الماضي، وأُصيبت أخريات بأمراض لا علاج لها سوى الأمل الغائب. عشرات العائلات لا تعرف للفرح طعمًا، لأن الفرح ارتبط بأشخاص غابوا، وتحولوا إلى ذكريات مؤلمة ورسائل لم تُقرأ، وركام تحت التراب.