مسيرة بناء الأوطان والدول عندما ترافقها الإرادة الإيمانية والوطنية لا تستطيع أية قوة أن تقف أمامها وتعطل تحقيق أهدافها والشواهد على ذلك كثيرة من بينها ما حدث في ماليزيا وسنغافورا ودول أخرى حيث بفضل قيادات نهضتها الحكيمة استطاعت أن تنطلق من الصفر إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا في عدة سنوات وأصبح لها ثقلها الدولي الذي يُشار إليه بالبنان بعد أن كانت شعوبها تعيش وضعاً بائساً واختلافات وحروب داخلية فتخطت هذا الوضع بنجاح معتمدة على إمكانياتها الذاتية وملتفة حول من رسموا لها طريق التطور والتقدم والازدهار، وذلك بعكس تلك الشعوب التي جعلت الحقد والغل يتسلل إلى صدور مواطنيها ليحارب بعضهم البعض على حساب بناء الدولة ويسمح حكامها للخارج أن يتحكم في مصائرها ويفرض عليها أجندته الاستعمارية رغم ما تمتلكه من إمكانيات تؤهلها للاعتماد على نفسها ومنها الشعب اليمني الذي أنشغل بالخلافات الشكلية سواءً كانت دينية أو سياسية والسبب الافتقار لإرادة التغيير والبناء. ولأن اليمنيين كانوا معجبين بنهضة ماليزيا بقيادة مهاتير محمد الذي ينتمي إلى أصول يمنية من حضرموت فقد وجهت القيادة السياسية في النظام السابق دعوة لمهاتير محمد لزيارة اليمن وطلبت منه إعداد تصور لبناء الدولة اليمنية الحديثة والاستفادة من التجربة الماليزية فكان أول شيء طلبه بعد وصوله إلى صنعاء هو الاطلاع على موازنة الدولة فكانت المفاجأة بالنسبة له أنه شاهد الرقم الكبير منها مخصص كموازنة للجيش وشاهد أن التعليم لا يحظى إلا بالشيء القليل مقابل ما يصرف على القوات المسلحة فقدم مقترحا بأن تخصص موازنة الجيش للتربية والتعليم وموازنة التعليم تخصص للجيش ولكن مع الأسف فقد رفضت القيادة السياسية آنذاك هذا المقترح فما كان من مهاتير محمد إلا أن قطع زيارته لليمن وغادرها بعد أن قال لهم هذه بلدكم وأنتم أخبر بها ديروها كيفما تشاءون ففاتت على اليمنيين قيادة وشعبا فرصة عظيمة كانت ستساعد على بناء دولة نظام وقانون لو تمت الاستفادة من أفكار قائد نهضة ماليزيا مهاتير محمد. بعد مغادرة مهاتير اليمن تذكرت ما قاله لي الدكتور فرج بن غانم رحمه الله بعد تكليفه بتشكيل حكومة عقب الانتخابات البرلمانية الثانية عام 1997م واشترط قبل التكليف أن يُمنح صلاحيات دستورية كاملة لإدارة الحكومة تحول دون تدخل أي طرف سياسي أو من أصحاب النفوذ في عمله وتمت الموافقة على مضض ولكنه حسب ما فهمت منه عندما زرته في منزله الحكومي بشارع الزبيري وأمضيت عنده مع عدد محدود من المحيطين به حوالي ست ساعات بأنه اصطدم بوضع القوات المسلحة حيث اكتشف أن نصف المنتسبين إليها عبارة عن أسماء وهمية تخصص لهم معظم موازنة الجيش مؤكداً أنه ظل يفاوض الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح حتى أقنعه بمنحه صلاحيات لبناء قوات مسلحة تُدرب تدريباً جيداً ويتم الاهتمام بأفرادها وتحسين وضعهم من خلال زيادة دخلهم خاصة المرابطون في الحدود فقال له الرئيس الأسبق من أين آتيك بموازنة، فقال له: لا أريد منك ريالاً وحدا فسأله علي صالح كيف ستعمل؟ قال: سنأخذ ما يصرف للأسماء الوهمية ونضيفها على مرتبات الموجودين، فوافق ولكن عندما علم علي محسن صالح والشيخ عبدالله الأحمر وعبدربه منصور هادي بهذا التوجه جن جنونهم وذهبوا للرئيس الأسبق صالح وقالوا له أنت ستحدث على نفسك انقلابا لأن ما يُصرف على الأسماء الوهمية في الجيش يذهب إلى أصحاب النفوذ الذين يحمون حكمك واتضح أن بعضهم يمتلك ألوية عسكرية وهمية كاملة تذهب موازناتها إلى بيوتهم بما في ذلك أولاد الشيخ عبدالله الأحمر فضلا عن المسؤولين مثل علي محسن والشيخ عبدالله وعبدربه منصور وقادة في الجيش ومشايخ لهم نفوذهم القبلي فتراجع علي صالح عن موافقته وهو ما جعل الدكتور فرج بن غانم يقدم استقالته ويغادر اليمن إلى سويسرا متعهدا أنه لن يعود إلى اليمن وهو في هذا الوضع غير المشجع لبناء دولة حقيقية على أرض الواقع وليس دولة للتغني بها إعلاميا على الورق فتم تعييينه سفيراً ومندوباً لليمن في سويسرا وظل هناك حتى توفاه الله وكان آخر تواصلي معه قبل وفاته بأيام وهو مرقد في أحد المستشفيات السويسرية، وعندما توافرت إرادة لبناء قوات مسلحة عقب قيام ثورة 21 سبتمبر الشعبية عام 2014م رغم ما واجهته من عدوان وحصار ما يزال مستمراً للعام الحادي عشر على التوالي أصبح اليمن حديث العالم وقادراً على مواجهة دول كبرى بحراً وجواً في مقدمتها أمريكاوبريطانيا وإسرائيل وأذنابهم في المنطقة محققا انتصارات عليهم وأجبرهم على سحب حاملات طائراتهم وسفنهم الحربية من البحر الأحمر لتبقى السيادة فيه لليمن آملين أن يرافق ذلك إرادة قوية للقيام بثورة إدارية تساعد على بناء الدولة الوطنية الحديثة. من هنا يتضح أن تأخرنا في اليمن وعجزنا عن بناء دولة بمفهومها الحقيقي يحكمها النظام والقانون مقارنة بمن سبقونا ممن حولنا وهم كانوا متأخرين عنا يعود إلى غياب الإرادة الوطنية والإيمانية وتغليب المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن وبناء دولته فالمسؤول عندما يتم تعيينه في منصب ما سواءً كان صغيراً أم كبيراً يكون كل همه مُنذ الأسبوع الأول لتسلمه منصبه هو كم سيوظف من أبنائه وأقاربه وأصدقائه فتتحول ادارته إلى عائلية بامتياز وإن كان هذا التوجه هو عبارة عن ثقافة قديمة موروثة يحرص كل مسؤول على الحفاظ عليها على حساب العمل لتصحيح الاختلالات وفرض النظام والقانون وعليه إذا لم تتوافر إرادة التغيير والبناء فإننا في اليمن سنظل في محلك سر ولن نتقدم قيد أنملة، والمشكلة الأكبر هي أن من يعتبرون أنفسهم مثقفين لاسيما أولئك الذين أتيحت لهم الفرصة للعمل أو الدراسة في الخارج هم أشد خطرا على الوطن من غيرهم بدليل أن كل مسؤول منهم لا يهمه سوى تنمية ذاته من خلال الفساد الإداري والمالي الذي يمارسه دون حسيب أو رقيب عليه ، وإذا ما توقفنا قليلا أمام من أتيحت لهم الفرصة خلال العقود الماضية بل وإلى اليوم لاحتلال مناصب حكومية سنجد أنهم أصبحوا أصحاب شركات ومشاريع كبيرة البعض منها يديرها أبناؤهم في الخارج فضلا عما يمتلكونه في الداخل. والأعجب من ذلك أن من يعتبرون أنفسهم تقدميون وقوميون وثواراً واشتراكيون من اليمنيين وكانوا يزايدون برفع الشعارات للتحرر من الرجعية والاستعمار ومحاربتهما ويتهمون من يدافع عن الوطن وسيادته واستقلاله ويقف مسانداً للأشقاء في قطاع غزة بأنه إمامي وكهنوتي ومنقلب على الجمهورية ومختطف للدولة حسب زعمهم هؤلاء أرتموا في أحضان أعتى حكم رجعي كهنوتي وسلالي لم يكتفِ بالتعامل مع مواطنيه وكأنهم تابعين له ولا يسمح لهم حتى بحرية الكلام وإنما مسخ هوية شعب بأكمله وألحقها بإسم أسرته آل سعود فأطلق على شعب نجد والحجاز وملحقاته صفة السعودية وربط تاريخه بتاريخها وكأنه لا يوجد له هوية تاريخية ليصبح ما يُعرف اليوم بالشعب السعودي الوحيد في العالم الذي تنتمي هويته إلى إسم الأسرة التي تحكمه، بالإضافة إلى ارتماء الكثير منهم في أحضان إمارة أوجدتها بريطانيا من العدم عام 1971م وأطلقت عليها اسم الإمارات العربية المتحدة ووضعت أسرة مجهولة الأصل والمصدر من أعراب آل نهيان لتحكمها وسمحوا لها مع السعودية أن تحتل المحافظات الجنوبية والشرقية وعدد من الجزر اليمنية في مقابل ثمن بخس يُدفع لهم شهرياً ضاربين بكرامتهم وشرفهم الوطني عرض الحائط بدلاً من أن يفكروا في الدفاع عن وطنهم اليمن المعروف تاريخيا بمنبع العروبة والمشهود له من نبي الإنسانية المرسل رحمة للعالمين محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام بالإيمان والحكمة، فهؤلاء ليس لديهم رؤية لبناء دولة في بلدهم بقدر رؤيتهم لاستدعاء الخارج وتمكينه من احتلال وطنهم.