تحدثنا في الجزء الأول عن المرجعية الإمامية المؤسسة لثقافة الأصل والفرع ، تلك المرجعية التي بُني عليها الأساس النظري لفكر الوحدة .. والتي امتد مفاعيلها للأسف حتى بعد الثورة بعد أن اعترض ممثلو الجمهورية الوليدة كما بينا على حق تقرير المصير للجنوب في أحد مؤتمرات القمم العربية في العام 1964م بوصفه كيان تابع لا مستقل ، حتى تم إقناعهم بالموافقة على أن يتم السير في أمر الوحدة بعد تحقيق استقلال الجنوب . وتبعاً لذلك لم ينظر ساسة الشمال بعين الرضا لموقف الجنوب الرافض للانسياق وراء مشروع إلحاق الجنوب بالشمال بوصفه فرعاً بعد أن نال استقلاله ، وتأكيدهم أيضاً على ضرورة توفير الشروط الموضوعية أولاً لأي مشروع وحدوي بوصفه توحيد بين كيانين . وربما كان ذلك هو السبب لحدوث أول توتر في العلاقات بين الجنوب والشمال في عهد الرئيس الأسبق قحطان الشعبي رحمه الله كما جاء في محاضرة للدكتور عبد الكريم الأرياني في 9 يناير من العام الجاري ؛ إلا أنه تهرب من ذكر السبب .. وكان الماوري قد ذكر أيضاً في مقال له بعنوان الخرافة الثالثة : الجنوب العربي هوية وطنية لا جغرافية ، كيف اغتاظ الرئيس عبد الرحمن الأرياني و قيادته السياسية في الشمال حين قام الجنوب بتعديل أسم الدولة من اليمن الجنوبية إلى اليمن الديمقراطية في العام 1970م مما دفع القيادة الجنوبية إلى إرسال محمد على هيثم لتهدئة خواطر القيادة في صنعاء . وكان الدافع وراء كل ذلك القلق هو التطور الجديد في المُسمى الذي قام بحذف اسم الجنوب بوصفه إشارة إلى وضعيته كفرع من وجهة نظرهم ، مما يجعله معادلاً للأصل العربية اليمنية وهو ما دفع بعض ساستهم للقول ماذا أبقى لنا الجنوب بعد ( أي أصبح أصلاً ) ؟ كل تلك المخاوف كان سببها الخوف من عرقلة توجههم نحو الجنوب بوصفه فرعاً ينبغي إذابته وسط مجتمع الشمال الأكثر عدداً كما ورد عن الرئيس عبد الرحمن الأرياني نفسه ، وقد جاء ذلك في حديث للكاتب تجيب اليابلي مع عدن الغد ، الأمر الذي يشير إلى رغبتهم في احتوى الجنوب (الفرع) تحت يافطة الوحدة. ولم يتغير ذلك التوجه إلا بعد أن أشتد عود الجنوب حيث خف حماس حامليها . ولكن ما لبث أن ذر بقرنه من جديد بعد أن أصيب الجنوب بالوهن بعد أحداث يناير وسقوط المعسكر الشرقي ، إذ عاد صالح شارعاً راية الوحدة وفق نفس الرؤية القديمة المؤسسة على عودة الفرع إلى الأصل وإذابته طوعاً أو كرهاً في مجتمع الأصل كما ذهب إلى ذلك الكاتب طاهر شمسان في مقال له بعنوان القضية الجنوبية بين الرواية والدراية مؤسساً طرحه على دراسة تحليلية لسلوكه السياسي وسلوك القوى السياسية والاجتماعية لنظامه. وتحولت تلك الرؤية من الفكر إلى الممارسة الواسعة بعد الوحدة واتخذت أشكال مختلفة إذ بدأت بتحجيم ثورة الرابع عشر من أكتوبر ، بعد أن جعلوا من ثورة السادس والعشرين من سبتمبر هي الثورة الأم أي الأصل وتبعاً لذلك أصبحت ثورة الرابع عشر من أكتوبر أبناً لها أي فرعاً وهو توصيف لا يكتسب أي مشروعية تاريخية وقد سخر منه بشدة بعضاً من كبار الكتاب . وما لحقه بعدئذٍ من سياسات الضم والإلحاق التي مُورست على الجنوب إذ كانت مخرجات سلوكية لتلك المرجعية بوصفه فرعاً ينبغي أن يتماهى مع الأصل في الشمال . علاوة على ممارسة التحقير المعمم كالقول بأن الجنوبيين صومال وهنود وغيره وهي ممارسات تأخذ أحياناً طابعاً مادياً كل ذلك لا يمكن عزله أيضاً عن مرجعية الأنا الأصل . وقس على ذلك تحديد الزي الرسمي في بعض المرافق الحكومية إذ يحددونه بالبنطلون و يجيزون معه لبس الثوب ولكنهم لا يجيزون بالمقابل لبس الفوطة ، و الأمر نفسه ينسحب على عمارة كثير من المباني العامة في الجنوب حيث يُفرض نمط عمارة الشمال مع تجاهل كامل لخصائص البيئة وفنون العمارة في مناطق الجنوب . حتى خيار فيدرالية المناطق الذي يُروج له اليوم لا يمكن عزلة عن تلك الرؤية المؤسسة على ضرورة تماهي الفرع في الأصل . وأخيرا ما جاء على لسان أحد الأخوات في لجنة الحوار الوطني في برنامج عين على الديمقراطية في قناة الحرة في أكتوبر المنصرم حول تجربة النضال السلمي في اليمن فهي لم تتجاهل الحراك الجنوبي بوصفه أحد المصادر الملهمة لثورة الشباب كما جاء عند كثير من الكتاب المنصفين في الشمال ، بل تجاهلته حتى كحركة نضال سلمية ولم تأت على ذكره عندما سُئلت عن تجربة النضال السلمي في اليمن ، مع إنها كانت سباقة على ثورات الربيع العربي ، إذ أخذتها العزة بالأناء الأصل . كل تلك النماذج المار ذكرها هي أمثلة من الممارسات ضد مجتمع الجنوب . وهي في عمومها تعبيرات سلوكية لأسطورة الأصل والفرع المترسبة في بنية الوعي التاريخي ، والحاضرة بقوة على مستوى الممارسة السياسية و الاجتماعية عند القوم حتى اليوم . وكانت قد ازدادت حضوراً و تجذراً بعد حرب 94م بوصفهم الفئة المنتصرة .