مما لفت نظري وأثار إعجابي أثناء زيارتي لباكستان(موضوع تعدد اللغات) وأتوقع أن هذا الموضوع حظي بدراسات كثيرة ومتنوعة. أنا هنا أتكلم عن اللغات لا عن اللهجات، ومنبع هذا التنوع اللغوي هو التعدد العرقي والقومي، ووقوع باكستان في طريق عبور بين الشرق والغرب وتدفق موجات من الهجرات في مراحل تاريخية طويلة. في تنقلي في الباكستان مدة أربعة أشهر جالست وصحبت متكلمين بلغات مختلفة بل أنك تجد الرجل يتقن اللغتين والثلاث والأربع وربما يكون هذا الشخص أميا، وتجد في العائلة الواحدة من يتكلم الأردية وآخر يتكلم البنجابية وآخر يتقن السرائيكية. كان من الأذكياء الذين عرفتهم أخي وصديقي المترجم(حفيظ الله) وقد صحبته شهرا في فيصل آباد ولاهور وكراتشي وتلمبة وهو من إقليم البنجاب، فكان يتحدث العربية بحكم دراساته الشرعية ويتكلم الأردية بصفتها اللغة الرسمية لبلده ويتكلم البنجابية لأنها لغة الإقليم ويتكلم السرائيكية فهي لغة قومه وبلدته، ولقد أخبرني أنه يضطر أحيانا لترجمة محاضرات العلماء لبعض أهل بيته من الأردية إلى السرائيكية، ضف إلى ذلك أنه خطب فتاة بشتونية تتكلم لغة البشتون، ومرافقنا( تابش) يتكلم الإنجليزية بطلاقة هو وجميع أفراد عائلته ويتكلمون الأردية بدرجة أقل والبنجابية لغتهم القومية. ومن الحوادث التي لازلت أذكرها أنه زارنا يوما مزارع سندي من إحدى قرى كراتشي فأخذ يكلمنا والشيخ عبد اللطيف يترجم بيننا وبينه ولكن الشيخ أحيانا يجد صعوبة في الترجمة فيستعين بغيره، فلما سألته عن ذلك قال : هذا الفلاح سنديته موغلة وأنا خبرتي بالسندية ليست قوية فلغتي هي الكشميرية وأتقن إلى جانبها الأردية والعربية وشيئا من السندية. وأما اللغة الرسمية للبلاد فهي الأردية والتي يتكلمها أيضا مسلمو الهند، وتأتي اللغة الإنجليزية كلغة للتعليم الرسمي، وفي إقليم الشمال يتكلم عشرات الملايين من البشتون اللغة البشتوية وهي أيضا لغة العرق البشتوني في أفغانستان واللغة الرسمية للأفغان كما وهناك لغة في بيشاور تسمى لغة (هندكو) كانت لغة الهندوس والسيخ قبل التقسيم ومع هجرتهم إلى الهند تلاشت الآن حتى تكاد تنقرض ولم يعد يتكلمها إلا قرابة المليون. وفي إقليم السند والذي عاصمته كراتشي يتكلم أكثر من خمسين مليون اللغة السندية مع إتقانهم الأردية، وفي إقليم بلوشستان يتكلم العنصر البلوشي اللغة البلوشية وهناك تواجد أيضا للفارسية، والفارسية كانت اللغة الرسمية لدولة المغول المسلمين الذين حكموا القارة الهندية دهورا طويلة، وقيل أن ثلاثين في المائة من الأردية مأخوذة من الفارسية، ومما حدثني به مولانا محمد سفيان أن معظم ما ألف في الفقه الحنفي كتب بالفارسية، وقد وجدته يتقن الفارسية رغم أنه بشتوني، وقال أنه حفظ متونا في مباديء العلوم باللغة الفارسية. أما إقليم البنجاب وعاصمته لاهور فيتكلمون البنجابية وأظن أن من يتكلمها يزيد على ستين مليونا، وفي البنجاب توجد العاصمة إسلام آباد ومدينة لاهور وملتان وهي منطقة الأنهار الخمسة ومعنى كلمة بنجاب(الأنهار الخمسة ) . وأما منطقة كشمير فيتكلم أهلها لغتهم الكشميرية وهناك الكثير والكثير من اللغات والتي أوشك بعضها على الانقراض وبعضها محصور في مناطق صغيرة،وبعضها لم يعد يحافظ عليه غير كبار السن، ويصل عدد اللغات في باكستان إلى أكثر سبعين لغة. أما اللغة العربية فهي لغة التعليم الديني، وفي باكستان آلاف المدارس الدينية التي يتلقى الطلاب فيها العلم باللغة العربية، وهناك جامعة حكومية في العاصمة جميع دراستها باللغة العربية، ومن أفضل الجامعات الدينية التي تولي العربية عناية كبيرة (جامعة ابن عباس) في كراتشي وتتبعها مدارس ابتدائية وروضة أطفال للأولاد وأخرى للبنات يتعلمون بالعربية فقط وتتبع الجامعة مكتبة ضخمة جميع الكتب فيها عربية. وكذلك تهتم بالعربية الجامعات التابعة للشيخ طارق جميل في فيصل آباد وتلمبة وشاه كوت وديرة إسماعيل وغيرها، وهي أربع عشرة جامعة ثماني للذكور وأربع للإناث، وقد التقيت في تلمبة بالشيخ وقاص ووجدته يتقن العربية أفضل من أكثر العرب ويحفظ آلاف الأبيات من الشعر العربي بل أنه قرأ باللغة العربية عددا من التفاسير ومعظم ما كتب الطنطاوي والعقاد وطه حسين والندوي وأحمد أمين فضلا عن غيرهم. وعلى كل حال توجد في باكستان الكثير من الظواهر الثقافية والاجتماعية والفكرية والتاريخية التي تفتح الشهية للبحث والقراءة والإطلاع وكتابة الرسائل والأبحاث العلمية المحكمة.