اليوم راسلني أخي الشيخ وقاص وأخي تابش من باكستان ليبلغاني بموت عمران عزيز البلوشي. والقصة أنه رحمه الله كان في كشمير خارجا في سبيل الله مع ثمانية من طلاب العلم وفي الليل جاءت السيول وهدرت الأودية وجرفت قرية تتكون من 150 بيت مع مسجديها ومات الدعاة جميعا ومات معهم الكثير. أما عمران عزيز البلوشي فلي معه قصة : في زيارتي إلى جامعة الحسنين في مدينة فيصل آباد أستقبلنا المشايخ هناك وعلى رأسهم شيخ العربية وباعث روحها في باكستان الشيخ رمزي التونسي (والكلام عن الشيخ رمزي يطول وليس الآن محله). فلما قررنا المبيت في فيصل آباد أنزلونا في غرفة الضيوف وكان معي أخي الشيخ حفيظ الله وأخي تابش فلما تمددت على السرير جاء بعض الطلاب للسمر معنا، ولقد أذهلني اهتمامهم باللغة العربية وإتقانهم لها وحفظهم للكثير من الأشعار العربية، وأظن بعضهم يحفظ المعلقات السبع والكثير من الأشعار القديمة. أما عمران فقد جلس معي على السرير فلما أردت أن أستوي جالسا أقسم بالله أن لا أجلس فبقيت متكئا وجلس هو على جانب السرير وهو يكبس ركبتي وساقي وحاولت أمنعه ولكنه أقسم علي ثم قال : أريد أن أسامرك وأثاقفك في العربية فأنا أحب أن أسمعها من أهلها. فقضينا ساعات في الأشعار وأخبار العرب وطرائفهم الأدبية وتاريخ الشعر والأدب وكان عمران عزيز يتكلم بعربية فصيحة ويكثر من الاستشهاد بالشعر الجاهلي وقضينا على ذلك ليلتين وكان الحديث بيننا لا ينقطع فكان كلما خرجت أو دخلت يستقبلني بالشعر ويودعني بالشعر، ويوم سفرنا سار معي إلى السيارة وهو ينشد أشعار التوديع وعانقني والدمع يملأ عينيه ،حتى انطلقت السيارة وهو يشير إلينا وينشد الأشعار. رأيت فى هذا الشاب مخايل النجابة والذكاء والنبوغ وتوقعت أنه سيكون له مستقبل في العلوم الشرعية وعلوم العربية فقد قرأ الكثير من كتب الأدب القديمة والحديثة حتى قرأ للرافعي والعقاد وطه حسين والطنطاوي والمنفلوطي وغيرهم وكان لي شغف أن أعرف سبب تميز هذا الشاب ،فسألته عن بداياته فقال : أنا بلوشي أقيم في قرية قريبة من كويتا وأتقن لغتي البلوشية والفارسية والأردية والعربية، أبي رجل من عامة الناس ينفق علينا من مجزرة (ملحمة) ولكنه رغم عدم مواصلته لتعليمه شاعر مشهور باللغة البلوشية وله خمسة دواوين شعر ويستضاف في القنوات الفضائية وكرم من بعض الجهات الثقافية في أقليم بلوشستان، كانت الكراسات لا تفارق أبي حتى ونحن نتناول الطعام فربما مسح يده وأخذ القلم وكتب في الكراسة ثم يرجع للطعام وهكذا ربما يتكرر عدة مرات، وحتى عندما ينام يضع عند رأسه كراسة ومصباح وربما رفع الغطاء عن وجهه وأخذ المصباح وكتب شيئا ثم يعاود النوم، بل كان يأخذ الكراسة معه إلى المجزرة ليكتب الخواطر التي يبني عليها أشعاره، وكان يفرح بي كثيرا عندما أعود إلى البيت في الإجازات فيطلب مني أن أنشده أشعار العرب ثم أترجمها له إلى البلوشية حيث أنه لا يفهم العربية، وأذكر ليلة أننا تسامرنا إلى قرب الفجر وأنا أنشده من شعر المتنبي فكان يتمنى أنه يتقن العربية ليستمتع بشعر المتنبي وترجمت له إلى البلوشية شيئا من أشعار عنترة وزهير وأبي تمام والبحتري وغيرهم. من هذا علمت أن عمران عزيز نبت نباتا حسنا في مناخ أدبي بين يدي أب عاشق متذوق. عدت إلى اليمن وكنت كلما راسلت أحد الإخوة من طلاب فيصل آباد أسأله عن عمران عزيز ونتبادل التحايا، وهو يرفض أن يستخدم الجوال اللمس لكي لا يحمل الفيس والواتس ويرى أنها ستشغله عن الترقي في العلم والمعارف. لقد خسرت بموته جامعة الحسنين وبلوشستان وباكستان رجلا عظيما كنت أتوقع أن يحجز له مقعدا مع العظماء، ولكن الله أختاره ليحجز له مقعد صدق عند مليك مقتدر ناصر الوليدي - عدن 15 يوليو 2019م