بعد ربع قرن مضى هيفاء تبيح لي بما كنت أجهله، حيث قالت : • لم أكن أعرف بإحساسك ناحيتي .. لم أكن اعرف بمشاعرك نحوي.. أنا انسانه بسيطة جداً، وكنت انظر اليك باعتبارك قدوة في الجانب العلمي.. حاجه كبيرة جدا.. لم يخطر ببالي انك معجباً بي.. كنت اسمع عنك الكثير واهابك واقدرك.. اشعر أنك تحترمني ولي منزله عندك بسبب مكانة والدي وعائلتي لديك.. اكثر ما لفت نظري تفوقك وخجلك.. اشتغلنا مع بعض بأسبوع الطالب الجامعي.. كنت احس بشخص مرتبك ومتردد وخجول.. اعتقدت أن هذا طبعك في التعامل، وبالذات مع النساء. • اخبرتني اختي إن كنت أحتاج شيئاً أو إجابة عن سؤال متعلقا بدراستي أطلبه منك، وكنت أتردد وأحجم عن الطلب تجنبا لذلك الخجل، والارتباك الذي أراه يعتريك.. اعتقدتُ أنني أثقل عليك.. أرجعت خجلك وارتباكك لطبيعتك فحسب.. • اتذكر يوم وقوفي اقرا المجلة الحائطية في الكلية.. لفتت نظري قصيدتك وقرأتها لكن لم يخطر ببالي اني كنت ملهمتك في القصيدة.. • سألت عنك؛ وقيل لي بانك متزوج، ولديك اسرة واطفال.. لم أكن أعرف أنك لازلت عازبا.. هذا أيضا جعلني لا أفهم سر ارتباكك غير إرجاعه إلى طبعك في التعامل مع النساء، ولطالما ظننت أنك لا تكن لي أكثر من مشاعر الاحترام.. • لو بحت لي حينها بما كنت تشعر به، كانت حياتي تغيّرت، أو ستتغير كثيرا.. لقد ظللت ابحث عن حب يروي عطش روحي ولم اجده.. ربما لو قرأت قصيدتك وعرفت أنني موضوعها أو اهديتني إياها كانت تغيرت الاحداث كلها.. لم أكن ادرك انك تحبني.. كثير ممن كانوا حولي كانوا يتقربوا منّي، وبعد خطوبتي ابتعد الجميع.. • انت من كنت تملك اللسان يا صديقي؛ فالقدر اصم وابكم ويمكن هو اختار لك ما هو أفضل.. • كانت زميلتي “هدى” تقول لي عنك: هذا الشاب يهيم بك.. وكنت اقول لها مستحيل، هو رجل متزوج وخجول، ولا يحمل لي سوى الاحترام والمودة التي جاءت نتيجة لمعرفته بأهلي وتاريخ والدي.. • لم اكن منتبهة لجمال عيني، لذا لم اشعر بالغزل لهما، ولم ألاحظ لنظراتي ذلك السحر الذي كتبت عنه.. لم اكن اعلم ان لخطواتي الإيقاع الذي تحدثت عنه.. أحلى حاجة فيك انك صرت تتكلم بصيغة الماضي عن حبك لي، وهذا دليل انك تغلبت عليه. • لازلت أتذكر وأنا أمرُّ من امامك أنت وزملائك.. كنت أزداد تحفظاً، وأتحاشاهم لظني أن لديهم رأي ووجهة نظر عن المرأة لا تروق ولا ترتقي.. • ظللت اقرأ واتابع ما تنشر عن قصتك حياتك.. عانيت كثيراً يا صديقي.. تألمت كثيرا على خالتك وموتها وقبرها.. اسلوبك رائع لدرجة اني ابكي وانا اقرا.. تشبيهاتك حلوة وجميلة.. ومع ذلك حاولت أن افتش عن ذاتي بين سطور ما كتبته، ولم أجدها على نحو ما ذكرت، لعل أمر يتكرر بشكل آخر، فأنا لم ألحظ عليك ذلك الحب الذي تحدثت عنه، وتدّعيه هنا، في زمن غادر ولن يعود.. • لم اكن أنا تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحدثت عنها يا عزيزي .. كنتُ فتاة اكثر من عاديه أكان بالنسبة لجمالي أو لوضعي الاجتماعي.. لا أمتلك تلك الصفات التي وردت فيما نشرت.. • لا أحب ان يكون لهذا الحنين انين لروحك يا صديقي.. انت شخص حساس وبسيط وصادق جدا.. لذا فالتسامح والنسيان طبعك.. بجد هذا الالم سيؤثر عليك، وما نعيشه اليوم من الآلام والمرارات فيها ما يكفي ويزيد.. • على غير طبيعتك حلمت في أحدى المرات بك بعد انتخابك عضواً في مجلس النواب.. حلمت انك أتيت إلى بيتي ومعك حرس وشديتني من يدي بعنف وقوة وعيونك تقدح شرراً وغضباً وتقول لي: الآن اقدر أن آخذك لي.. كنت مستغربة من كمية الغضب في عيونك وقسوتك الشديدة.. ظللت فترة مستغربة من هذا الحلم ومن هذا الغموض الذي فيه.. *** كنت قد ألتقيت ب “هيفاء” بعد أسابيع قليلة في ساحة التغيير للمرة الأولى بعد أكثر من واحد وعشرين عام من الغياب والانقطاع.. جمعنا الظلم الواقع علينا، وكان لكل منّا قصته.. ازدريت فن السياسية وقبحها، ولم أتنازل عن حلمي الكبير الباحث عن المدينة الفاضلة التي ربما ليس لها مكانا في الوجود، فيما كانت هيفاء في السياسة واقعية جدا وإلى حد بعيد.. تزوجت هيفاء مرّات، فيما أنا تزوجت من فتاة، في غمار البحث عمِّن تشاركني السعادة والنكد وعبور الجحيم.. أحببت من صارت لاحقا زوجتي.. أحببتها من نظرة واحدة، ودفعة واحدة، بعقد نافذ إلى آخر العمر.. عمَّدنا حبَّنا بالتحدّي والعِشرة الطويلة والصمود الأكيد، وجذرته مصالح سبعة من البنات والبنين.. لم أفكر يوما بالزواج عليها من أي حورية.. اعتبرت الزواج من ثانية، قتلا لضمير أحمله، وتشويه لروح لطالما نشدتها، وإيذاء للحياة في عالم غير عادل.. قبل أن تنشب هذه الحرب اللعينة، ألتقيت بهيفاء ذات مرة في البعيد.. حكيت لها عن حبي وعذابي وقصتي معها، وقهقهت وقهقهة معي، غير أن قهقهتي كانت بصوت طاحون، وفي اللحظة تذكرت أنني يوما قرأت من يقهقه عاليا يخفي تحت قهقهته مخزون من الحزن الكثيف.. بعد ربع قرن من العمر باحت هيفاء بما لا تبوح، ورأيت في مرآتها بعض تفاصيلي وما كنت أجهله.. فرقتنا الحرب وكل منّا صيرته على النقيض من صاحبه، ولكن ربما الغد يجلي ما خبى، ولربما يوما توحدنا الحقيقة ومُرّها، أو تظهر لنا تلك الحقيقة التي كانت عنّا مطمورة ومغيّبة.. ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، يتبع.. بعض من تفاصيل حياتي