يظل الشعر هو المغامرة الكبرى التي يقتحمها من يمتلك الموهبة فقط، والقدرة على وضع إجابات كونية لاسئلة العالم من حوله من خلال الشعر ذلك، الكائن العجيب الذي يظل يتشكل في كل يوم عبر قوالب مختلفة وعوالم متبايتة لكنه يظل الشعر هو الشعر، ونحن الآن نحاول الدخول إلى عالم شعري ذي طبيعة خاصة استطاع أن يضع لنفسه بصمة مهمة وطريقا جديدا رغم صعوبة كل الأشياء حوله لكنه صمد وتحدي وقدم رؤية مهمة، إنه عالم الشاعرة اليمنية سمر الرميمة منذ سنوات وانا أراقب تجربتها منذ أن قرأت لها النص الأول بالنسبة لي فتولد لدي إحساس أننا امام شاعرة مختلفة، شاعرة تملك ناصية الشعر من خلال قدرتها علي توظيف اللغة وخلق الصور الجمالية المدهشة،والأكثر دهشة انها تضع هذه المهارة في قالب شعري ضيق وهو الشعر العمودي والذي تصر على كتابة هذا الشكل والتجديد فيه ولا تخرج عن اطاره إلى شكول شعرية أخرى، ربما كانت اكثر رحابة لامتداد الصور الجمالية من الشعر العمودي الذي تخنقه القافية كما يرى البعض.. استطاعت الشاعرة سمر الرميمة، أن تقدم صوتا شعريا مختلفا عن الكتابة النسوية الغربية، والشعر مؤهل لذلك كغيرها من الشاعرات، فقد بدأت تجربتها مع بداية جريان التيار الأخلاقي في شعرها كنوع من رسالة القوى الناعمة إلي دعم هذا التيار في الواقع، ولم تكتب لتعري الرجل كقوة منهاضة وسلطة قاهرة وإنما جاء الرجل في نصوصها الشعرية حبيبا مثاليا هو عمدة البيت والقصيده معا، وربما هذا راجع أيضا إلي تربيتها الأسرية المتصالحة مع نفسها، ومن ثم لم تعش الشاعرة هذا الانفصام في تجربتها الشعرية بل كانت متصالحة مع نفسها والواقع أيضا، وهذا بدوره أضفى على تجربتها نوعا من الشفافية والصفاء في شعرها، وعند تأمل تجربة الشاعرة سمر الرميمة، نكتشف أن الاغتراب هو السمة الغالية علي تجربتها الشعرية الاغتراب.. يبدو الاغتراب سمة مشتركة عند كل الشعراء لأنهم أكثر حساسية تجاه خراب العالم من حولهم، لكنه يبدو تيمة تعزف عليها الشاعرة دائما لأنها تعيش اغتراب الوطن اليمن وتمزق هذا الوطن فيبدو الاغتراب ذا سلطة على الخطاب الشعري لدى الشاعرة دون أن تشعر به إنما تنتجه القصيدة حال تشكلها بين يدي الشاعرة، حتى أن إحدى قصائد الشاعرة تحمل عنوان (اغتراب) اغتراب: لا تلم يا قلب مجروح الهوى خده من مزن عينيه ارتوى كم يُثار الدمع في مقلتهِ من لظى أشجان مغناه اكتوى يا فؤادي واستمع مني الذي أشعل الروح حنينا وجوى خذ حديثي محمل الإنصات ما أصدق التجديف في بحر الهوى إنّهُ الحُب اغترابٌ للذي في أراضيه العميقات هوى يُعرَفُ السُهد على ألحاظه ولياليه اقترابا ونوى ليس يشكو حالهُ، من ذا الذي وجد البوح لمفتونٍ دوا؟ يجب هنا أن نذكر أن الأدب هو حقيقة ذاتية وتشاركية مع الواقع لا نستطيع أن نفصله عن الواقع خارج الذات فجرح القلب وحزن العينين وسقوط الحب ونزول الدمع مفردات ذات دلالة عميقة لاغتراب الذات عن عالمها وفي نفس الوقت تعبير الذات عن واقع يرى من خلف بنية القصيدة، واقع ينزف بحجم حزن الذات وهنا تبدو تشاركية الذات مع الواقع في مفارقة المخرجات والمدخلات بين الذات والقصيدة لم يغب الاغتراب عن قلم القصيدة عند الشاعرة فتارة يأتي في الحزن وتارة في السقوط لكنه يتعمق عندما يصل إلى التاريخ، فالتاريخ هو عمق الواقع والتأسيس الأهم لتحولات الواقع وايديولوجيته، لذلك حين يسقط التاريخ يسقط العالم من حولنا ونشعر بالفراغ والاغتراب وهذا ما أكدته الشاعرة في رحلة اغترابها عبر تجربتها الشعرية تَارِيخُنَا الصَدمَةُ الكُبرَى غَدا قبسًا من انتشاءٍ لأرواحٍ كسيرَاتِ تَارِيخُنَا الوَهمُ أوجَاعٌ بنَا سكنت عصارةٌ من صَدَى دمعٍ وَآهاتِ دُمُوعُنَا ملءَ عُمق ِ التيهِ نسكبُهَا ما أوجَعَ البوحَ في سَطرِ المتَاهَاتِ اصرَارُنا كُلّمَا جِئنَا لِنُشعِلهُ أتَت ريَاحٌ بخيبَاتٍ وخيبَاتِ حَقِيقةُ الواقعِ المأسَاةِ نَدفنُها ونُظهِرُ الزيفَ فِي غَابِ العذابَاتِ فلم تكن حقيقية الواقع هي المأساة لولا سقوط التاريخ الذي جعل الهوة واسعة بين الذات الشاعرة وبين واقعها حاضره وماضيه وهذا ما جعل الاغتراب يشكل تيمة مهمة عند الشاعرة ومظهرا من مظاهر تجربتها الشعرية والشاعرة سمر الرميمة، هي أنثى رقيقة وحساسة بوحي الغريزة التي رسخت فيها؛ وهي غريزة الأنثى التى تتعامل مع الأشياء بنعومة الأنثى وحنان الأم، وفي كثير من كتابات الأنثى يأتى الوجدان مرتبطا بالذكر الرمز الذي هو الإبن أو الحبيب أو الوطن، ويبدو هذا الاتجاه مسيطرا على الحالة الإبداعية عند الانثى بدرجات مختلفة حتى إنها تصل إلى حد البوح الجريء ، لكنه عند الشاعرة سمر الرميمة يبدو هذا الجانب نادر وحينما يجيئ فإنه يجيئ من بوابة التيار الأخلاقي الملتزم وفي نفس الوقت يأتي غاية في الرقة والجمال ومع ذلك فإنه يأتي مغتربا أيضا محملا بباقات من الحزن الشفيف سواء في هجرة الحبيب او اغتراب الوطن ما ذنب قلبي إذا أحبابه ظلموا... لا هم به شعروا أو قصده فهموا ما ذنبه؟ غصة الأحوال تعجزه... شرح المراد بحبل الصمت يعتصمُ ما ليله غير أشجان مبعثرة.. مع المقادير والآهات تنسجمُ ما صبحه غير ذكرى بالحنين أتت.. تعيد ثورته الأولى وتضطرمُ لو أنهم أدركوا كم أوجعوه لما.. صبوا عليه النوى من فعلهم ندموا فهذا القلب الذي يحمل عذابات العالم قرب مغترب بين مكونات الإنسانية لكنه يحمل التسامح أيضا، يتوزع ولذلك توحِّد الشاعرة هنا بين الألم باعتباره تيمة الروح الشفافة في مواجهة انهيار العالم وبين توطين النفس على تحمل عذابات الآخرين، وهذه إحدى تجليات الاغتراب عند الشاعرة الصورة الفنية مازلنا نعتبر أن القصيدة العمودية قد يضيق الخيال فيها لأن القافية تحجَّم اتساع البنية التحتية للقصيدة ومن ثم تصبح رقعة الخيال ضيقة إلا ما ندر عند شعراء القصيدة العمودية في عصرنا هذا، وقد لاحظنا كثيرا أن شعراء القصيدة العمودية حاليا يهتمون بالوزن والقافية علي حساب الصورة الفنية وبخاصة الشعراء الشباب منهم، وإذا كنا نعتبر الشاعرة سمر الرميمة من الشعراء الشباب فإنى أتصور أنها أمهر شعراء جيلها في خلق صورا فنية مدهشة في قصيدتها العمودية وسوف اتوقف عند نموذج واحد من هذه الصورة الفنية المدهشة التي تضرب عرصات تجربتها الشعرية جَمَعتُ مِن كُل زخَّاتِ النقا جُمَلِي وَقُلتُ يَارَب بَارك ْ بِالرِّضَا عَمَلِي إليكَ لاذَت شُجُون الرُّوحِ ليسَ لَهَا سِوَاك ذُخْرَاً، أتتكَ اليومَ فِي خَجَلِ قَلبِي الّذي رَهن أوهامِ الهوَى وَجِلٌ وَأنت َ أمْنُ الذي نًادَاكَ فِي وَجَلِ نَثَرتُ خَوْفِي، وَدَمْعُ العينِ أسكبهُ من الندامة في بحرٍ من العلل كَسْرِي الذي ما سِوَى يُمناك تَجبرهُ زادي اليكَ.. وذُلِّي والدعا رُسُلِي هَلْ لِي بِوَحْي الأمَانِي الحائِماتِ عَلَى جَفْنِ المُنِيبِينَ مِنْ دَوامَةِ الزَّلَلِ!? هَل لِي ببُشري السَماوات التي انتفضتْ بِقَوْلِ (يَارب) ضَاقَت فِي الدُّجى سُبُلي!? هَلْ لِي بِفَجْرِ ابتِسَامَات ِ الأُلَى سَجَدوا وَعَانَقُوا العَفْوَ فِي سجادة الأمَلِ!? إن هذه الصورة التي نحاول الدخول إليها تتيح لنا اكتشاف ذات الشاعرة ورؤيتها للعملية الشعرية وكيفية بناء النص على أساس جمالي متزن، ناهيك عن طواعية اللغة وانسيالها بين يدي الشاعرة وعلى مجرى القصيدة، واقع ينزف فهى ذات تقترب من الصوفية فامتلكت ناصية النقاء الروحي وشفافية الصورة وجاءت مرتكزات الصورة هنا كاشفة عن قدرة الشاعرة على تطويع اللغة وبنية المسافات المتكافئة بين أجزاء الصورة الجزيئة التي تخلق الصورة الكلية، فزخات النقا وشجون الروح والأماني الحائمات ودوامة الزلال مكونات خالية تؤسس لرؤية مشهدية في حالة صوفية فتشع الصورة نوار، وتعويض جمالي عن ضيق القافية حتى إن الصورة تخرج خارج إطار النص لتتحول إلى صورة كونية لأنها تصنع انسجاما بين الأشياء التي تبدو لنا متضاربة في حقيقتها، ولذلك فإن الشعر الجيد هو يهدم ثوابت الواقع ويخلق واقعا جماليا موزايا يختص بالنص والتجربة الشعرية الواعية فالصورة لا تروي فقط ما الذي يدور في رأس الشاعر ، وإنما تعكس كل ما يحس به من تداخل بين الفكر والعاطفة والشاعرة سمر الرميمة تقدم لنا صوراً شعرية ينبثق وجودها من الأرض والوطن، وتصور المكان والزمان باعتبارهما انعكاساً الجمالية التخيلية والتي تحيل الخيال واقعا والواقع خيالا وهذه قدرة جمالية لا يقوي عليها إلا شاعر متمرس وموهوب في الأصل فالصور اقدر على التمييز والتأثير من الكلمات المجردة ويبقى أن أقول أننا في محراب شاعرة مطبوعة سوف يكون لها شأن شعري هام وخاص بها والعالم من حولها.