من ذاكرة الماضي المؤلم والجميل تحديدا أيام الدراسة الجامعية، فقد كانت هناك أكثر من حكاية تنتظرنا عند كل صباح لتذهب بنا إلى مغيب الشمس دون إعتذار، وفي ذات يوم مشمس، بينما كانت المواصلات خفيفة في شوارع المدينة بسبب أزمة المشتقات النفطية، فلا يتسنى لأحدنا الدلع كما يقولون، كسائر الأيام أن يدع هذا الباص يمر مثلاً أو هذا يفلت دون أن يوقفه - بحجة أنه من نوع قديم أو انه ليس أنيق، أو ، أو ، والخ،، بل كانت الباصات مزدحمة براكبيها لنفس السبب من أزمة المشتقات النفطية، وبعد نصف ساعة من الإنتظار، جاء باص متواضع كان الصدام الأمامي مربوط بقماش يبدو كبقايا شال من شماغ البسام أو رقعة حمراء، فأشرت له بيديَّ الأثنتين مع شيء من الترجي، غير مهتم بشكل الباص- أكان أنيق أم لا،، وإذا به يستجيب ويأشر لي بضوء كشاف واحد من الكشافات الأمامية .. إلى أن وقف، سائق الباص يبدو بمنتصف العمر وكان أسمر البشرة وذو بسمة عريض، ناداني بصوت شاحب وقال هيا يا ابني،، سررت به جدا فألقيت السلام أولا على راكبي الباص، وكان في المقعد الأول- أي خلف السائق رجل متقدم بالسن ومتين الجسم، تتدلى من أعلى جبينه تجاعيد الشيخوخة أو السمنة ربما، كان يبدو مستاء، فلم يرد السلام كبقية الركاب، ومن دون قصد جلست إلى جانبه بنفس الكرسي ولم يتبقى سوى مكان لراكب واحد بجانبي، وكنت حينها أتساءل بصمت: كيف للركاب أن يتركو القدام فاضي؟! فمشينا نصف المسافة لنجد هناك فتاة تقف على الرصيف، كانت تأشر للباص وفي يدها كتاب، بدأ السائق بالدوس على البريك ليوقف الباص وإذا بالرجل المُسِن يصرخ بلهجة دارجة: ( امشي يا سواق،،، والله وربي اتعبتنا أنت وحقك الباص هذا الكندم ) ولم يكن يعرف أن الراكب هي أنثى، وحتما وقف الباص، وبينما كنت أنا أقرب واحد ألى الباب أشرت بيدي الى القدام قائلا لها تفضلي، وقد كان هناك مكان لراكب واحد إلى جانبي أنا والرجل في الكرسي الذي نركب عليه فقاطعني السائق ليقول لي: لو سمحت مد يدك وافتح لها الباب، كان الباب مُأمن بسلك من الداخل، وإذا بها تهز رأسها معربةً عن إمتنانها لهذا المعروف، فتبسمتُ في عينيها الغارقتين بالعرق معبرا عن قبول شكرها، ومخاطبة الضمير للضمير أما الرجل العجوز فقد انزعج جدا، وبلهجته الدارجة قال لي: مالك يا ابني روح أنت إركب هناك في القدام وخل الحرمة تطلع مكانك، شف الباب تعبان، ثم صيَّح للبنت تعالي يامة.. اطلعي هنا.. مالك ومالهم ذولا شباب تعبانين، ومن بقايا المرأة المحطمة كنت أختلس النظر إلى ملامح الجمال على وجنتي تلك الفتاة وضمور شفتيها، والجميل في الأمر أنها لا تبالي بشيء مما يقوله ذلك الرجل الخرف،، كان يهذي وكأن في نفسة شيء من الغرام، وكان يتمتم مرددا أغنية للموسيقار أحمد قاسم ( على الساحل صدفة إلتقينا )، وأغنية للموسيقار محمد عبدالوهاب فيها موال جميل صراحةً ومناسب لصوت ذلك الرجل الذي تحول من مستاء الى مزعج، ومن حينها أيضا بدأ يحدثنا عن أيام شبابهم، وعن ماضٍ لم يكن ربما،، ويحكي عن الجمال وحسن تعامل الرجل مع المرأة في تلك الأيام العصيبة، والحفاظ على أحاسيس النساء وجمالهن.