* بينما كنت أتجول في حي الدقي العتيق (أحد أهم وأرقى الأحياء) بالقاهرة المصرية، لفت نظري تمركز كثير من اللاجئين والنازحين اليمنيين ورأيت إحيائهم الحركة التجارية في الجهة الغربية والشرقية لجسر الدقي، خاصة المطاعم ومحلات العطارة.. دخلت أحد المطاعم للغداء، وكأنني بالضبط في صنعاء، الأصوات العالية الضجيج يملأ المكان، القليل من الاهتمام بالإتيكيت ورائحة الأكل اليمني أكثر ما يخفف عليك وطأة الفوضى والضجيج... (العادة اليمنية التاريخية).
طاولة مجاورة على الطاولة المقابلة رأيت مجموعة من الشباب اليمني مع شخصية أجنبية (خواجة)، يمدون سفرة طويلة وضعوا عليها مالذ وطاب من المطبخ اليمني اللذيذ حتما. لم أهتم للحوار لكن يبدو أن الخواجة كان سعيدا ومتغاضيا عن الضجيج وغيره، فتذكرت مثلا كان يردده والدي يقول (إطعم الفم تستحي العين). شباب يمني واعد مبهج، يلبس بشكل مرتب ونظيف، تخيلت معه مستقبل اليمن، وقلت في نفسي.. كيف لو كان الداخل اليمني مثل هذا الذي أشاهده..!! في الواقع تمنيت ذلك، بدلا من المشاهد الرثة في الداخل اليمني منذ مئات السنين، والتي تعكس صورة سلبية عن المجتمع اليمني. لأن الفقر ليس مبررا أبدا لهجر النظافة والترتيب، ولأن ذلك بالتأكيد ثقافة اجتماعية، وليس نتيجةزعوز ومجاعة..
عمال وسط البطالة في الدقي وجدت اليمانون يمارسون أعمالا كثير، ويزاولون مختلف المهن بل ويتملكون المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة، قلت في نفسي وأنا أخرج من الدقي إلى التحرير مبتسما: (أظن أن اليمنيين الذين سيدخلون جهنم في الآخرة سيفتتحون مشارع لهم هناك، وسيفتتحون المطاعم ومحلات العطارة وبيع العسل وربما البناشر.. من يدري). اليمنيون شعب عمل وعمال، لن تجد منهم يوما من يتسول في الشوارع المصرية، لأنهم في الأصل يرفضون هذه الصورة جملة وتفصيلا من صميم النشأة والتربية، فاليمني يقضم أظافر أصابعه قبل أن تمتد يده للسؤال. وفي شارع الملك فيصل والهرم، رأيت شريحة أخرى لليمنيين الذين يتملكون العقارات ويعملون أحيانا في (السمسرة) أو البيع والشراء، في العسل ومشتقات الزيوت الطبيعية وغيرها، شعب يدهشك بتمسكه بالحياة بشرف، والجميل أنك لن تصادف النصب والاحتيال، وإن شدوا على بعضهم أحيانا في بعض التعاملات، إلا أنك تجدهم في المصيبة واحد.
تهامي في القاهرة لم أقابل حتى كتابة هذه المقالة سوى تهامي واحد في القاهرة، هو الصديق الممثل والكاتب اليمني محمد طالب الذي ظهر بشخصيتي (زخيم، والشيخ برقوق) في مسلسل همي همك، وربما يعود ذلك إلى حالة الفقر التي تعيشها تهامة اليمن، وربما إلى تمسك التهامي بأرضه والتصاقه بها، وخسارته ستكون فادحة إن غادرها.. لا أعلم يقينا ماهو السبب وأعتمد في هذا الأمر على الحدس فقط، وبالتأكيد أن هناك تهاميون، لكنني أظنهم قلة. وربما فتحت هذه المقالة الباب لتوضيح أكثر حول ذلك الغياب التهامي في اليمن المصغر في القاهرة كما هو الغياب التهامي عن التمثيل السياسي المؤثر في الحكومات اليمنية المتعاقبة منذ أن خلق الله الأمة اليمنية!!! من يدري قد تكون الأسباب وجيهة ومقنعة، وقد يكون التهامي اليمني سبب نفسه بنفسه؟!
*صحفي وكاتب رأي يمني *مشرف قسم الرأي سابقا في صحيفة الوطن السعودية