في دردشة سريعة وعلى الخط الماشي مع اخي وصديقي الحميم الباشمهندس جمال الرشيدي ))(ابو مدين) وهو من بيت مضياف واحد شيوخ وأعيان المنطقة، وهو خال حبيبنا الفنان المتألق ( نايف عوض) مستعرضاً بعض اللقطات الجميلة من شريط الذكريات قائلا : عند تخرجي من إحدى الجامعات الفرنسية وتتويجي للأعوام الدراسية بالتفوق العلمي والدرجات العالية وكغيري من الطلاب المبتعثين للدراسات العليا بالخارج عانيت كثيراً من الإقصاء والتهميش والاهمال بعد التخرج ، ومررت بفترة طويلة دون عمل ومنضويا بحزب ( خليك بالبيت) وذلك ما ترتبت عليه الأوضاع الكارثية في البلد بسبب الحرب المشؤومة في 94 . مع دورة الأيام لدورتها الازلية ولأن بقاء الحال من المحال و مع التغيرات العالمية لاحت لي بارقة أمل في توديع منطقة الجفاف والسنوات العجاف من خلال احدى الفرص بعد أن استحكمت بي المعاناه واخذت مني كل مأخذ ، ذلك عندما حملتني الأقدار ذات يوم وقذفت بي لاعماق الصحاري والرمال على تخوم الربع الخالي للعمل مترجما للغة الفرنسية بإحدى الشركات العاملة هناك . من خلال تلك الرحلة المكوكية الطويلة تم التعارف على كثير من الأصدقاء هناك ومنهم الكولونيل الإنجليزي ( كولن ميشيل ) مدير السلامة المهنية بتلك الشركة ، حيث بدأت أولى خيوط المعرفة بيننا من خلال حديث ودي ، فيه من ( الطرافة والدهشة) ما يأسر الألباب وذلك عندما بدإ يس0لني: س : من اين انت ؟ ج : من اليمن س: اي يمن ؟ فين في اليمن ؟ ج :. من عدن. س : حسنا عزيزي جمال ، من فين في عدن ؟ ج :. من عدن .. عدن. عندها بدأ بداخلي جرس الإنذار يفعل فعايله ، وبدأت القشعريرة بجسمي وشعر رأسي بدأ يتركز ، وفي حوار خافت كنت أردد مع نفسي .. يا للعجب ! كيف لهذا الراجل الشايب وقد بلغ من العمر عتيا ، يعلم أدق التفاصيل عن بلدي؟ وكان جوابي عليه دقيقا حسب السؤال.. little Adenعدن الصغرى.
س : فين في عدن الصغرى ؟ كان ردي عليه يحمل إشارة استفهام فيه من المكر ما فيه علني اجد ما يشفي غليلي، بيد أن الحيرة والدهشة آخذتا مني كل مأخذ فقلت له: س: هل لديك إلمام تام عن منطقتي في عدن الصغرى ؟
هنا ارتسمت عليه علامات الدهشة وانفرجت اسارير وجهه فقال لي: ج: انا اعرف الخيسه وفقم وعمران وصلاح الدين والمنصوره والشيخ عثمان وكذلك اعرف سكشن 6.
هنا تحديداً وعند عبارة ( سكشن 6 ) التي هزتني كثيراً وجعلتني أعيد حساباتي لمرات عدة وأدركت حينها يقينا أن هذا الرجل الشايب العسكري ( مش عادي). ويتمتع بذكاء خارق وبمكانة عالية ومرموقة .
ونحن نعلم جيداً ان ( النمبر 6 ) هي المنطقة الواقعة بجانب كلية عبود ( سابقآ كلية عدن) والاسبق ايام الإنجليز كانت ( كلية البيومي). وهي من أهم النقاط العسكرية على تخوم المحمية وتتميز بالتفتيش الدقيق بحثاً عن الثوار القادمين إلى محمية عدن .
وعودة للموضوع فأنا مازلت استعرض شريط الذكريات بسرعة فائقة ومع أغاني وأناشيد المرشدي والعطروش وأحمد قاسم وبن سعد ، وماكان يصاحبها من لقطات تلفزيونية لبعض جنود المحمية.. وجدت صورة الكولونيل مطبوعة على الذاكرة وتتجدد بين الفينة والأخرى .. وتذكرت حينها جيداً وقوفه مع المندوب السامي بمقبرة الإنجليز في صلاح الدين ، وكذلك بعض اللقطات والمطاردات بين حواري وأزقة شوارع كريتر العتيقة حيث تظهر جلية للعيان أبرز ملامح الكولونيل مع قسمات وجهه وخاصة الأنف والعيون والجبهة .. رغم كبر سنه وتغيير بعض الملامح .
فقلت له أنا من الخيسة ( عدن الصغرى) ولكني ارجوك أن تخبرني كيف عرفت تلك المناطق التي ذكرتها ؟ اجاب الكولونيل مبتسماً وقال: يا عزيزي انا خدمت مع الجيش الملكي البريطاني وشكراً لك على معرفتك وبهذه الفرصة السعيدة . ختاماً يمكنني القول ولما تقتضية الأمانة التاريخية: كان قمة في التواضع والنبل والتعامل الإنساني ومن الشخصيات ذات التأثير والجاذبية ممن قابلتهم في حياتي العملية .. ولا اعلم ما إذا كان على قيد الحياة ام قد رحل بعد هذه السنين الطويلة.