الفساد " اطنب ", وعمّ وطمّ , واغمّ واهمّ . أرهق اليمنيين , فأجاعهم وشرّدهم وامرضهم واشقاهم . فالفساد هو منشئ الكثير من العلل في مختلف المجالات سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وامنيا واداريا وقيميا واخلاقيا والى غير ذلك . وعلى ذلك تكون مواجهته عمل وطني بكل ما تحمله الكلمة من معنى , كلا بما يقدر عليه . قد يرى البعض ان هذه المرحلة هي مرحلة غير مستقرة , ويصعب فيها التركيز على مواجهة الفساد وهناك من الاشكالات ما هو أولى . فما يعيشه البلد من صراع سياسي يفرض محدودية التوجه لمواجهة الفساد , وتأجيل مواجهته الى بعد حل التأزم في المجال السياسي. لاشك ان الظرف السياسي في البلد له تأثيره على التوجه لمواجهة الفساد ولكنه ليس ذلك التأثير الذي يتصوره البعض , اذ انه من الممكن الحد من تأثير الظرف السياسي على جهود مواجهة الفساد بشكل فاعل بشيء من تحديد المجالات وتطوير الوسائل. في هذه المرحلة مطلوب من الجميع في المؤسسات الرسمية المعنيّة بمكافحة الفساد , وفي منضمات المجتمع المدني المهتمّة بذلك , وكافة الفعاليات في البلد , وحتى على مستوى الفرد , ان يفرّقوا بين الفساد الذي تم في الفترة الماضية , واصبح يمثل ملفات تحتاج الى تفتيش من جهة , والى معالجات خاصة لتصحيحه من جهة ثانية , وبين الفساد الذي يتم حاليا . وهذا الاخير هو ما يجب التركيز على مواجهته في هذه المرحلة غير المستقرة , وذلك كون الاول هو الذي يتأثر بالوضع السياسي في البلد . كما يجب على المؤسسات الرسمية المعنيّة و على المنضمات المهتمّة ان تغير العقلية التقليدية التي تعمل وفقها في مواجهة الفساد , وان تنتقل الى ايجاد أليّات عمليّة جديدة , تتّسم بالتخصص والفاعلية وبالإمكانية ايضا . والتي تفيد في منّع وقوع ممارسات الفساد قبل وقوعها , وليس فقط الرقابة عليها او اكتشافها كما هو حاصل حاليا. بدوري كمحاسب قانوني متخصص بهذا الشأن, سأضع برسم فخامة رئيس الجمهورية , وبين يدي المؤسسات المعنية والمنظمات المهتمّة, ألية مقترحة للحد من استنزاف المال العام بشكل فاعل, وخصوصا في اطار الموازنات السنوية للمرافق الحكومية والمختلطة, كما اقدمها كمثال على نوعيّة الأليات الابتكارية المطلوب العمل بها في مواجهة الفساد . الفساد في اطار الموازنات العامة للمرافق الحكومية والمختلطة يضيع ويهدر بسببه المليارات من الريالات , سواء في فساد جباية الايرادات او فساد انفاق المصروفات . ولو تم الحد من هذا النوع من الفساد فسيكون لذلك اثاره الايجابية السريعة والمباشرة على اداء المرافق واستقرارها ماليا واداريا, وسواء على المرافق وعلى منتسبيّها . اوسع الابواب التي ينفذ منها الفاسدون للعبث والنهب في اطار بنود الموازنة العامة للمرافق التي يديرونها , هو باب السريّة , فالجبايات و الصروّفات تتم بسريّة تامة لا ابالغ اذا قلت تشبه اسرار المفاعلات النووية . وهذه السريّة لا يحتاج اليها الا من يريد العبث , اما من لا يعبث فلا يحتاجها , ولا مانع لديه من ان يطّلع غيره على تصرفاته لأنه ليس لديه ما يخفيه . هناك مبدأ اسمه " الشفافية ", وهو مبدأ يردده ويتغنى به الكثير , ولكنه لا يطبق و لا يتم العمل وفقه من الاغلب, وهذا المبدأ هو الذي تنطلق منه الآلية المقترحة لمواجهة هذا الفساد , فهي ألية تقوم على كسر السريّة , وتمكيّن غير من لهم حق التصرف في بنود الموازنات من الاطلاع على تصرفات من لهم حق التصرف فيها . ادعوا لتشكيل لجنة تضم ممثلين عن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ,وعن هيئة مكافحة الفساد , وعن اللجنة العليا للمناقصات , وعن وزارة المالية, وعن الاكاديميين والمختصين في الحسابات والموازنات, وعن المنضمات المهتمّة بمكافحة الفساد , وتتولى هذه اللجنة اعداد " لائحة للشفافية " في المرافق الحكومية والمختلطة . بكل بساطة ما هو مطلوب من هذه اللائحة هو ان تلزم المرافق بان تنشر التصرفات التي يقوم بها مسئوليها في نهاية كل شهر , ومن خلال استعراض بنود الموازنات تحدد هذه اللجنة ماهي البنود التي تكون المرافق ملزمة بنشر تغيراتها على العامة وتعرضها في لوحة الاعلانات في المرفق , وماهي البنود التي يجب ان يطلع عليها فريق خاص - كمستشاري الجهة مثلا - نظرا لطبيعتها الخاصة الغير قابلة للنشر العام تبعا " لأسباب موضوعية " . " لائحة الشفافية " هذه تنظّم مواعيد وفترات النشر وكيفيته , والادارة المعنية بالنشر والتوقيعات المطلوبة على ما ينشر , وتحديد ما ينشر للجميع وما ينشر لفريق خاص , وكيفية تشكيل هذا الفريق الخاص, وما يعد من تقرير لذلك ولمن يقدم تقريره, وكذلك تصميم نماذج محددة للعرض . وتحدد عقوبات عدم الالتزام بالعمل وفقها . وغير ذلك من التفاصيل المطلوبة في هذه اللائحة , وكذلك اعداد برنامج مزمّن لتشغيل هذه اللائحة في جميع المرافق . أمل من فخامة رئيس الجمهورية ان يوجّه بتشكيل هذه اللجنة لإنجاز هذه اللائحة , التي ستخرج التصرفات المالية من السريّة الى الضوء. وكمتخصص اقول له: يا فخامة الرئيس, لائحة كهذه ستحدّ بشكل كبير من مظاهر النهب والاهدار والتمصّلح , وحتى من القصور في الاداء المالي للمرافق في اطار موازناتها العامة . وستحمي هذه الألية المليارات من الريالات , وسيترتب على ذلك إعادة تنظيمها وتوزيعها لصالح المرافق وصالح منتسبيّها , وهو امر سينعكس ايجابا ومباشرة على الدولة والمجتمع ككل .