حالما كنت صغيرا، لطالما استهلكتُ حذائي حتى آخر رمق فيه.. لا أتركه حتى يلحق به كل ممزق.. لا أرميه حتى تنقطع أنفاسه إلى الأبد، فأجعله في كوة أو زاوية من البيت، بما يشبه الذكرى، وربما لعوز أشد أبحث فيه عن الفردة التي لازالت تقوى على الاستخدام، أو بقي فيها ما يمكن استخدامه كقطع غيار.. إذا انقطع "سير" فردة حذائي أعيد تثبيته بمسمار أو أكثر كان يجري استخدامهم لهذا الغرض على أيامنا تلك.. كانت أحذيتنا الهالكة أشرف وأغلى من وجوه بعض ساستنا هذه الأيام.. بين ترك حذائي المنتهي وشراء آخر، كانت تمر أياما وأسابيعا وربما أشهرا، وأنا أضرب بأقدامي الأرض دون حذاء.. مشيت بقدمين عاريتين لفترات غير قليلة.. عرفت قداماي الشوك مليا، وعانتا من آلامها التي كانت في بعض الأحيان تدوم لفترات قد تطول.. كان "الهوك" وهو دبوس رفيع، يساعدني على إخراج الشوك من قاع القدم.. وأحيانا كانت خالتي هي من تساعدني وتتولى إخراجهن.. خالتي التي لا تلبس الأحذية، ربما بسبب عيب خلقي في قدميها، وكانت تجيد إخراج الشوك بألم أقل.. أرتق ب "الهوك" " قميصي المفقود أزراره.. كنّا نكبر ونتمني أن تكبر معنا ملابسنا وأحذيتنا إن طال عمرها.. عندما تنسلخ فردة حذائي استخدم مسمارا أو أكثر؛ لأطيل عمر خدمتها وبقائها.. على أيامنا لم تكن لأحلامنا أحذيه.. كانت أحذيتنا تهلك ونحن نحاول إطالة عمرها، وكان حذاء الشَّيطان هو الذي لا يبلى ولا يهترئ كما جاء في المثل.. يوم شراء الحذاء كان بالنسبة لي يوم بهيجا ويوم هلاكه كان يوم حداد.. أقدامنا كانت أحيانا لا تقوى على لبس الحذاء بسبب الجراح التي فيها.. لم تكن الأحذية في أيامنا نغيّرها إلا لهلاك أو ضرورة، وليست كشعارات وولاءات هذه الأيام.. شكرا لذلك القائل: "سأقذفُ جواربي إلى السماءِ تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ وأمشي حافياً.." وأصاب من قال: "نحن نعيش أَوْج عصر التفاهة، اللباس فيه أهم من الجسد.." ولم يجانب الصواب ذلك الذي قال: "صاحب هذا الحذاء اشرف من جميع لصوص السلطة".. أما أنا فلا أحب من يقرؤون شخصيتي من خلال حذائي.. أنا أعشق الشرف العالي والبساطة وإن كانت بحذاء مهتري أو حتى دون حذاء.. الأناقة لا أبحث عنها ولا أكترث بها إلا بالقدر الضروري أو اللازم، وما عداه أجد نفسي مستريحا لقول الشاعر: ليس الجمالُ بمئزرٍ .. فاعلم وإن رُدِّيتَ بُردا إِنّ الجمالَ معادنٌ.. وَمَنَاقبٌ أَورَثنَ مَجدا اليوم بالمال كما قال أحدهم: "يمكنك شراء أي شيء : "البرلمانيين ، السياسيين ، القضاة ، النجاح والحياة المثيرة.." ولكن هناك من لا يملك غير حذاء مهتري أو حتى لا يملك قيمة حذاء، ولكن لن تستطيع أن تشتريه بأموال وكنوز الأرض كلّها. *** حضرت الصباح إلى "قرية العِقام"، وبمعيتي الرفيق راجح علي صالح وآخرين.. شاهدتُ السيارة عالقة، بل مُعلّقة كشاة مخلوسة، وبتعاون ابناء القرية تم بمشقة وحذر اصلاح وضع السيارة التي كانت مهددة بقلبة أخرى.. ثم أستمر العمل بجهد مثابر لاستكمال شق طريق فرعية مستحدثة في المدرّج، لإخراج السيارة إلى الطريق العام.. لم يكن حضوري إلى المكان صباح ذلك اليوم لافتا.. لم أكن مميزا عمن هم بمعيتي في السيارة التي استأجرتها، وكانت سيارة عادية غير لافتة.. لم أكن أختلف في هيئتي عن الموجودين.. كان البعض لازال منهمك في العمل، ولا يعلم بوصولي إلى المكان، وبعضهم بجواري لم يعرف أنني المرشح، ربما لغياب ما يميزني عمن حولي.. بعض أبناء القرية كان يسأل عن المرشح الذي يشقون طريقا لسيارته العالقة، ولا يدري أكثريتهم أنني أجوس بينهم، واقف محاذيا لهم.. عندما عرف أحدهم أنني المرشح، تملكته الدهشة والاستغراب، وبدلا من أن يحيّيني أو على الأقل يجاملني، تطلّع نحوي، وقال بتلقائية لمن هم جواره: “ما معوش صندل سعما الناس وشطلع مجلس نواب”.. رأيت بعضهم يمعن النظر إلى "صندلي".. بعضهم تعاطف معي، وبعضهم استغرب، وقليل ربما سخر أو هكذا بدت لي بعض الوجوه.. أما أنا فلم أدرك حال حذائي إلا في تلك الهنيئة العابرة، ولكن هذا لم يمنع من مرور مجنزرات بعض النظرات الثقيلة على قدميي التي كانت تنتعل تلك الحذاء البائس.. لم أكن أعلم بحال حذائي إلا في تلك اللحظة الثقيلة.. كانت ذابلة كوردة مهملة داستها الأقدام، أو كشمعة تلاشت واستنفذت صلاحية بقاءها.. أحسست بصمودها الذي فات.. كانت مهترئة الحواف والجوانب.. وجهها مكرمش في بعضه، ومقروش في بعضه الآخر.. قاعها مفلطح ومضغوط إلى الحد الذي أحسست أنها مثقلة بهم من تحمله.. صبرت عليه أكثر من صبر أيوب.. مجهدة ومتأكلة.. ما كان واجبا عليّ أن أعرفه هو أن للصبر حدود، وللاحتمال قدرة.. ولما كان لروحي عليّ حق، ولبدني عليّ حقّ، فلحذائي أيضا كان عليّ حق.. وحقّ لحذائي أن يعاقبني، وهذا ما حدث بالفعل؛ لقد عاقبني ولحق بي بالغ الحرج .. *** مشهدا مماثلا حدث لي لاحقا أيضا، إلا أن الأخير كان أكثر إيغالا في الانكشاف والحرج، فعند دخول الحملة الدعائية أوجّها أراد القدر أن يوقعني مرة أخرى.. كانت الدعوة لحضور مباراة أهلية في مدرسة “الفلاح” في “غليبة الأعبوس” وجميع المتنافسون الرئيسيون في الانتخابات سيحضرون هذه المباراة، وسيحضر أيضا جمع من المواطنين.. حضرت أنا والأستاذ طاهر علي سيف والدكتور عبد الودود هزاع وثلاثتنا كنا المتنافسون الرئيسيون على المقعد الانتخابي في الدائرة.. يبدو أن الدعوة كانت لتجسيد الروح الرياضية في التنافس الانتخابي، وإبراز تعاطي التحضر والرقي بين المتنافسين، أو هكذا ظننت.. قبل أن أصل بوابة مدرسة الفلاح، اختلع أحد "سيور" حذائي التي تثبت قدمي بفردة الحذاء، حاولت سحبها دون أن ألفت نظر من حولي، ولكن السحب كان يثير الغبار بسبب احتكاك الحذاء بالأرض، وكانت هيئتي تبدو لافتة إن لم تكن مضحكة.. حملتُ فردة بيدي واستبقيت الأخرى بقدمي، وكان المكان المخصص للجلوس قريب.. وفي المكان تصافحنا وتعانقنا أنا وطاهر والدكتور عبد الودود هزاع وجلسنا إلى جوار بعض.. وخلال المباراة نظرت خلسة نحو حذائي .. كان يشبه حذاء شاقي أو رعوي لا يهتم ولا يكترث بأناقته وأناقة حذائه ، شاقي يكتفي أن حذائه يحميه من الشوك فحسب.. تلك هي حاجته من الحذاء، وما عداها ربما يراها فائض عن حاجته، لا يهتم به ولا يبالي فيه، وفي مقدمة ذلك أناقته التي هي بعد رقم المائة في سلّم قائمة احتياجاته الغير مُلجئه.. وجدت حذائي يكشفني ويفضحني، ويحكي بؤسي وشقائي، الذي أحاول أن أداريه أحيانا عن الناس.. كنت أداري عن نفسي قلة حيلتي التي لا أريد أن أراها، ولا يراها غيري من الناس.. كان وجه حذائي بين الأحذية عبوسا ومتآكلا وهالكا، فيما جواره كانت أحذية المرشحين، فاتنات تخطف الانتباه وتشد البصر، وفيها البصر يغوي ويزيغ.. كانت أحذيتهم لامعة وجديدة، وكأنهم لا ينتعلونها في أقدامهم، ولا تلامس قيعانها السفلى خشونة الأرض وحبات التراب.. أحسست لحظتها كطفل يريد أن ينفجر بالبكاء.. أعادتني اللحظة إلى أحد الأعياد، وهو عيد كان فيه أقراني يلبسون الجديد، وكانت ثيابي بالية تحكي ما يثير غصتي وشفقة العيان، وفي أعماقي كان يوجد حزن أقمعه بشدة.. أحسست أن إنسان داخلي يريد أن ينفجر بالبكاء كطفل صغير.. وكنت أقاضي القدر في داخلي؛ لأنه لا يساوي بين فرص مرشحيه حتى بالأحذية.. انتهت المباراة وتفاجأت بمناداة المرشحين الثلاثة للنزول إلى الميدان، والاصطفاف إلى جانب بعض لتكريم الفريق المنتصر والسلام على الوصيف.. لحظة مربكة وحذاء فاضح.. خضت معركة مع نفسي ومع حذائي حتى يبدو كل شيء على ما يرام.. المرافقين معي ممن كانوا في قيادة حملتي الانتخابية، ومنهم محمد فريد، وردمان النماري، طيروا ما حدث، للأستاذ محمد عبد الرب ناجي، وهو رئيسي وقدوتي، وقد وجه على الفور بشراء أحذية على حسابه الخاص، وكنت في اليوم الذي تلاه قد صرت أرتدي حذاء جديدا.. بعد 17 عاما من عضويتي في مجلس النواب أحد أعضاء فريقي الانتخابي في يوم زواج ابنيه عاتبني بأنني تكبرت ولم أعد ذلك الذي عرفوه، فأريته حذائي وقلت له: "حذائك أفضل من حذائي.. " ولم أرد أن أزيد أن أبنائي لازالوا دون زواج إلى اليوم لأنني لم أستطع تزويجهما أو مساعدتهما.. أضع لديهما مبلغا من المال، ثم تشتد الحاجة وإلحاحها، وما ألبث أن أبدأ بصرفه وأفشل في إعادته.. *** يتبع.. بعض من تفاصيل حياتي ملاحظة.. الصورة الأولى حديثة عن تلكةالحقبة التي تحدثت عنها الصورة الثانية تكشف البيئة التي تنشأت فيها.. أخي وأخواتي وابن أخي بدون أحذية..