(ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق ، وان الله يبغض الفاحش البذيء) ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) النبي محمد( صلعم ). في ختام موضوعنا السابق المنشور بعنوان ( الأغنية الساخرة والقضية الجنوبية) المنشور في صحيفه الطريق الغراء ، أشرنا في ختام المقالة الى توضيح لمصطلح ( دباش ) الشهير الذي كان عنوانا لمسلسل تلفزيوني عرض في تليفزيون صنعاء بشهر رمضان في عام 1990 من القرن الماضي ، المهم في الامر ان هذا المصطلح في اطار التداول الشعبي اصبح يرمز الى اي سلوك فوضوي يتعارض مع النظام والقانون او السلوك المدني والحضري المعتاد بخاصه في المناطق الجنوبية التي اعتاد سكانها وأهلها على احترام النظام وقواعد المرور ،والآداب العامة والسلوك المدني، وبالذات في المدن واهمها عدنالمدينة التي كانت أنموذج للمدنية والسلوك الحضري الذي يميز سكانها المتعددي الانتماء والأصول كمدينة شهدت التعايش الإنساني ، واحتضنت كل القادمين إليها من كل الجنسيات ، حتى انها وصفت بكونها (ام المساكين ).
مصطلح دحباش تطور استخدامه في عدن واصبح يطلق قول (الدحبشه او تدحبش ) على كل من يسلك مسلكا فوضويا وخارج السلوك المعتاد ، الشيء المحزن والمؤلم ان الدحبشه هاجرت مواطنها الأصلية لتغزوا عدن وتستقر فيها وفي بعض مناطق الجنوب ، وتصبح عنوانا جديدا لسلوك البعض المتسم بالفوضى وعدم الالتزام بالآداب العامة والسلوك المدني المتحضر الذي كان سائدا ، وذلك بسبب الانهيار الأخلاقي المهول الذي مس القيم و اصاب كل جوانب الحياه في هذه المدينة التي كانت عنوانا للمدنية والتقدم والرقي في المنطقة ، ليصح القول هنا ان (التقدميون تراجعوا ، والرجعيون تقدموا ) اي ان (تتحضر) صنعاء ، (وتتدحبش )عدن .
وهذا الانهيار والتدهور الذي يمس الأخلاق والقيم الاجتماعية مباشره يعتبر اشد وأخطر أنواع الفساد الاجتماعي ، الذي انتشر كنتاج طبيعي لسياسات الإفساد والتدمير الممنهج التي انتهجها النظام منذ حرب الضم والالحاق في عام 1994 تجاه البنيه الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية والفكرية والثقافية والتعليمية والصحية والمعرفية والأخلاقية اي البنى ( المادية والمعنوية) لدوله وسكان الجنوب ، وهنا لن نتحدث عن صور ومظاهر الفساد في هذه المجالات فهي كثيره وملموسة ، بل أشير هنا فقط الى صور بعض الظواهر الدخيلة على ناموس الحياه الذي كان سائدا، و من ذلك ان يصبح السلوك الفردي للبعض متسم بالفوضوية و لا يراعي الآداب العامة والقواعد والعادات الاجتماعية السائدة كما أشرنا، يساعد على ذلك ضعف الوازع الديني لدى هؤلاء ، وضعف وغياب الرادع للقوانين الوضعية الذي يتحقق عبر مؤسسات واجهزه الدولة المختصة ، التي ساعد تجاهلها او تغاضيها المتعمد على نشوء وانتشار مثل هذه الظواهر ، ولست هنا بصدد الإشارة الى مجمل الأسباب فهي كثيره ، إنما أشير هنا الى اهم المسببات المباشرة والدخيلة لبروز هذا السلوك --
-الخضوع اللاإرادي لعدد من المؤثرات الحسيه المتعددة بعد استقدام وإباحة توزيع كافه أنواع الكيف التي انتشرت بصوره مخيفه بين بعض فئات المجتمع وبالذات الشباب ليجدوا فيها ضاله كيفهم المنشودة للهروب من واقع الاحباط ومساوئ التدمير المعنوي الذي يعانون منه بسبب الفراغ وانعدام الامل كنتاج للحرب الملعونة، اذ لم يتم الاكتفاء بتعاطي ورقه القات يوميا بعد ان كان ممنوعا تعاطيه سوى ايام العطل الأسبوعية والرسمية في عدن ،وممنوعا كليا في محافظه حضرموت ،بل بتعدي ذلك الى أنتشار ظواهر تعاطي أنواع غريبه من حبوب الكيف والهلوسة والمخدرات الدخيلة على مناطق الجنوب، والتي انتشرت مؤخراً بين بعض الشباب تحديدا، بصوره تدعوا للقلق والخوف وبالذات حين ينتج عنها ممارسه الأذى من قبل متعاطيها تجاه الذات او تجاه المجتمع .
- خضوع البعض من فئات الشباب لعدد من المؤثرات الداخلية والخارجية في ظل تدهور العملية التعليمية ومناهجها ، وانعدام تأثير المدرسة كموجه تربوي وتعليمي رئيس، خصوصا بعد ان خضعت المناهج والعملية التعليمية لمزيج من اجراءات العقلية الإقصائية الانتقامية وفتاوي التكفير العلنية والمبطنة لكل ما كان سائدا في الجنوب من قبل شركاء الحرب آنذاك وتحديدا في المجال التربوي والتعليمي ، مع ما أحدثته تلك المؤثرات والضغوط القادمة من عمق المعاناة المعيشية والنفسية الناشئة بسبب سياسه الافقار المتعمدة ولمنهجه ضد شعب الجنوب ، منذ حرب 1994.- وفي هذا الاتجاه لا يمكن إغفال المؤثرات الخارجية المتعددة التي أحدثتها الثورة التقنية و التقدم العلمي الهائل في الإعلام الفضائي المنظور والمسموع والمكتوب ، خلال العقدين المنصرمين ، وكذا تقنيه تبادل المعلوماتية المتعددة للشبكة العنكبوتية ، وتقنيه الاتصالات المتنوعة و المتجددة وما يحدثه التطور المتسارع والمتنامي لهذه التقنية من تأثير ايدلوجي على عقول الفتيه والشباب سلبا وإيجابية كموجه عام خارج السيطرة ، بخاصه في ظل غياب النموذج او البطل الاجتماعي الايجابي في صفوف هذه الفئات.
-، ومما يساعد على انتشار هذه الظواهر السلوكية الغريبة والشاذة هو تخلي أجهزه الدولة ذاتها عن ممارسه دورها وواجبها باعتبارها ارقى اشكال الحماية الاجتماعية بعد مرحله القبيلة ، وما يتفرع عنها من أجهزه ضبط وردع وتنفيذ للقانون حين يتم التعدي على الحق والملكية والحياه العامة ، او ارتكاب الجريمة بكل اشكالها المنتشرة ، لينحصر دورها فقط في ممارسه القمع للحركات الشعبية المناهضة والرافضة للنظام القائم، والتركيز على خدمات الإيرادات التي تدر الملايين للنظام فقط . وفي اطار الإشارة الى بعض الظواهر الدخيلة والغريبة نتحدث عن بعض صورها على سبيل المثال وليس الحصر :
- فكم يحز في النفس مثلا حين نرى القمامة تملا شوارع عدن ليصبح الامر مألوفا وكأنه ليس ذات اهميه ،ولو قمنا بإجراء دراسات علميه للوضع الصحي والبيئي الذي نعيشه بسبب القمامة ومخرجات الصرف الصحي والنفايات المرمية في بحارنا لا كتشفنا هول الكارثة البيئية والصحية التي نعيشها وهو ما يفسر ظاهره ارتفاع حالات الإصابة بأمراض غريبه وخطره كالسل والتيفويد والملاريا وحمى الضنك والسرطان وغير ذلك من الأمراض التي لم نكن نعرفها .
- انتشار المطبات في كل طرقات مدن عدن الرئيسة والفرعية بعد انتشارها في المناطق الريفية حد ان يكره المرء السفر اليها من كثرتها والتي لم نكن نعرفها من قبل ، مما يعكس الحالة النفسية والمزاج المضطرب القائم لدى الناس مع ما يرافق ذلك من انتشار للمخالفات المرورية بكافه صورها ليصبح اللا نظام هو السائد .
- وللمقارنة مع اليوم ، فمن صور تلك الايام الجميلة أتذكر جيدا مشهدا لضابط كبير تم إيقافه من قبل جندي المرور ليحرر له مخالفه لأنه تجاوز سيارة أخرى ولم يعمل الإشارة الخلفية للتجاوز، الضابط الكبير احترم الإجراء بل وسجل اشاده بحق جندي المرور ( اين نحن اليوم من ذلك ) ؟ أما الوقوف في شارع مدرم بالمعلا ،او تقاطع البنوك في كريتر خارج مواقع الوقوف اي ( البرت) ،او تجاوز الإشارة في اي وقت من الأوقات فمن كان يجرؤ على ارتكابها؟ ، وبالمناسبة فان الإشارات الضوئية التي تم إعدامها مع حزمه كبيره من قواعد المرور في كل مدن عدن ً كانت بدأيه تدشين عمليه التدمير لشيء اسمه النظام ، لأنها كانت اصلا ترمز لمستوى تقيد وتعود الناس على النظام ومدى احترامهم لهذا النظام الجميل وقواعده المنظمة لجانب من حياتهم ، وهو الذي لم يراه وللأسف الجيل الشاب، اذ لم يروا سوى فوضى المرور وفوضى السلوك في المرحلة السوداوية والصفراوية ومن مظاهرها اليوم :
- نرى البعض يقود السيارات بالاتجاه المعاكس بنوع من التحدي وقله الذوق و بلا أدنى ذره من آداب المرور ، وهكذا الحال في بعض الشوارع ذات الاتجاه الواحد ، او في الجولات، وهو الامر الذي يمكن ان يتسبب بحوادث ، وعرقله للسير وارتفاع للضغط والعراك حين يكون العناد سيد الموقف .
-ولعل اسواء ما شهدناه ورأيناه هو ذلك الاستقدام والانتشار المهول لتلك الباصات الخردة التي اصبح عددها اكثر من عدد الركاب ، وتم استيرادها كنفايات ممنوعة الاستخدام في بلدان آسيوية لأنها ملوثه للبيئة اصلا ، واستطيع القول ان النظام المروري النموذجي في عدن أجهز عليه حين تم السماح لهذا النوع من وسائل المواصلات المضرة جدا بالبيئة ، ولقواعد المرور، ولانسياب الحركة ، والسلامة لأنها صنعت على اساس قياده يمين في إندونسيا ، ليعاد أعدادها في دبي مثلا ، لتصبح علامه رئيسيه من علامات فوضى المرور ، وترمز الى مستوى أوجه الفساد، والاستخفاف بالإنسان وصحته، واستغلال الظروف المادية والمعيشية الصعبة التي نشأت بسبب طرد وإقصاء الجنوبيين من وظائفهم العسكرية والمدنية .
- او ظاهره تعرض بعض الشباب البلطجي للسيارات في بعض الشوارع ورميها بالحجارة بسبب من أرقامها مثلا، او لفرض أتأوه مزاجيه على كل سيارة تمر بحجه القيام بترميم الطرقات او لممارسه الابتزاز .
- او بقاء الاطفال يفترشون الشوارع ليجعلون منها مواقع للعب الكره والتسلية حتى اوقات متأ خره من الليل. -او -ارتفاع وانتشار معدلات الجريمة بكل أشكالها ومنها القتل، والسرقة للسيارات الخاصة والعامة ، وأموال الصيارفة وبعض المصارف وغيرها، في اطار ممارسه الجريمة المنظمة ولكن من المعيب ان تحدث هذه الجرائم بتشجيع البعض على قاعده ( حاميها حراميها) .
- ، انتشار ظاهره البناء العشوائي والتعدي والبسط على أراضي مصروفه للغير بعقود رسميه في مناطق مختلفة في عدن ، وهذا السلوك بحد ذاته يعد لغما كبيرا من شأنه خلق الفتنه بين الجنوبيين من ناحيه. ويساعد على تمكين غرباء ودخلاء للاستيطان غير الشرعي بهدف الاخلال بالتركيبة الاجتماعية والديموغرافية للسكان تحت مظلة هذه الفوضى المتعمدة ، -انتشار تعاطي المخدرات والخمور وممارسه الرذيلة وارتكاب الموبقات من قبل بعض الشباب والفتيه وبالذات من ابناء الميسورين ماديا .
- المؤسف ايضا ان نرى ظواهر الانهيار الأخلاقي لتشمل العلاقات الزوجية ، فمن يصدق ان يتزوج أمرئ من ابنه عمه اليافعة والجميلة وبعد ان يخلف منها ابنتهما الوحيدة تكتشف الزوجة الشابة ان زوجها المنتمي لإحدى مؤسسات الامن هو السارق الوحيد لمجوهراتها الشخصية لأكثر من عام من اجل توفير المال لاقتناء المخدرات والخمور ،وحين انكشف أمره ساوم زوجته لتدفع مبلغ من المال مقابل الطلاق والتنازل خطيا عن حقه في الأبوة ، والتخلي عن واجب النفقة ، فما مصير هذه الزوجة الشابة وابنتها ياترى ؟ وأي خيار فرض عليها في هذا العمر المبكر بفعل مثل هذا الانهيار الاخلاقي لمثل هذا الآدمي . . يا الله اي مسلم هذا ؟
وهناك صنف آخر من هؤلاء البشر حيث تزوج الاخر من ابنه عمه ايضا ،وبعد عشره عمر أنجبا خلالها خمسه من البنين والبنات أصيبت الزوجة بداء السرطان فما كان من زوجها المقتدر ماليا سوى التخلي عن زوجته ابنه عمه ليتزوج بأخرى ،ولم يكتفي بذلك بل أخذ جميع أولادها الى صنعاء ليترك زوجته في عدن ينهشها المرض الخبيث بلا وازع من ضمير او دين من هذا المغرور ، ويا الله اي مسلم هذا الذي يتخلى عن ابنه عمه وشريكه حياته لمجرد انها مرضت ويحرمها حتى من مصاريف معيشتها وعلاجها وأيضاً حرمانها من فلذات كبدها؟
هذه بعض صور زماننا هذا، وهي صور تعكس حاله التدهور الأخلاقي الذي نعيشه في هذه المرحلة التي نعيشها ، ولاشك بان تعاظم الحراك الشعبي السلمي للقوى الخيرة والفاعلة يعكس في واحده من صوره ومعانيه حاله الرفض والمقاومة الواعية لمجمل هذه العناوين والظواهر الدخيلة على حياتنا باعتبارها ألغام اجتماعيه خطيره لابد من استئصالها ومحاربتها .
ختاما يقولون :
-واذا أصيب القوم في أخلاقهم فاقم عليهم مأتما وعويلا ( احمد شوقي)
و-اذا أردت ان تعرف أخلاق رجل فضع في يده سلطه ، ثم انظر كيف يتصرف ( ألبرتو مورا فيا)
- تفسد المؤسسات حين لا تكون قاعدتها الأخلاق ( نابليون)