أن تعيش (34) سنة في بلد عربي ما فأنت صرت من مواطنيه سواء تجنست في وطنك الثاني وتخليت عن جنسيتك الأولى أم بقيت عليها، بحسب نظام كل بلد وسواء كنت تعمل في علم بسيط أم عظيم فأنت لك الحق وعليك الواجب وكل القوانين والدساتير تؤكد ذلك، فكيف بنا اليوم نرى أناسا أشقاء يعيشون بيننا لتلك السنين المشار إليها أعلاه، وبعدها يكفرون بهذا البقاء الذي لم يعطهم لا حق المواطنة، ولا الوطنية، ولا حتى مكافأة الخدمة التي أدوها، وفي أخطر الأماكن وأصعبها، والتي لا يخوض فيها إلا فدائيا مضحيا بنفسه، وإنها لأحدى الأمور الكبيرة التي سنطرقها هنا. هي قضية رجل طيب أتى إلى عدن/ اليمن عام 1979م فالتحق بعمل نبيل وفقا لتخصصه في الأمراض النفسية والعصبية – يعني بالمحلي (المصحة) أو (مستشفى المجانين)، وكان الطبيب الاختصاصي المعالج لحالات كثيرة، واستعملته الدفاع والداخلية في علاج حالات المساجين ومن المرضى النفسيين في الجيش والشرطة، لكن العمل الأخطر كان في سجن المنصورة الذي يطلقون عليه اليوم (السجن المركزي) بحسب مسميات ما بعد الوحدة التي غيرت كل شيء لكن للأسواء.
هو ابن الرافدين رجل خلوق عملي قليل الكلام كثير العمل لا يهدر وقته أبدا كل عمله في مجال تخصصه تجده بسيطا في التعامل لكنه كبير في التشخيص والمعالجة التي نفتقدها لدى الكثير من الاختصاصين في هذه الأمراض، وظل الرجل يحظى باهتمام ورعاية الدولة قبل الوحدة، ويعيش كطبيب شقيق معززا مكرما بيننا وكم من حالات كان بكلمات محددة يعرف المرض ويعالجه ببراعة كبيرة، إنها الخبرة والمراس وحب العمل والاخلاص له مهما كانت المضاعفات.
نطرق اليوم حالة الدكتور/ لطيف منصور الشاهين العراقي الأصيل الذي مازال بيننا يعمل في عيادته الخاصة التي منها يعيش حياة الكفاف، وتجده في صيدلية (الوليد) بخورمكسر يستقبل المرضى بمبالغ زهيدة، وحالته المتعبة لم تؤثر على رسالته الإنسانية النبيلة فالدكتور الشاهين منذ الوحدة (لم يعد له راتبا شهريا) لا في المصحة ولا من الشرطة أو الجيش لقد تبخرت تلك المؤسسات بفعل (22 مايو 1990م) التي ذهبت بالدكتور وبكثيرين منا إلى المجهول، وتلك كانت الغلطة والخطأ الكبير الذي به سلمت دولة باتفاقية هي (ورقة واحدة ليس لها ثاني) وللأسف كان الموقّعان اثنان لكن الحضور كانوا (69) شخصا من قيادات الشعب وهم كلهم من العيار الثقيل لكنهم أثقلوا كاهلنا، وها نحن اليوم نجر أذيال الهزيمة المضاعفة لكن اخونا الدكتور لطيف قرر اليوم أن يرحل منكسر الخاطر، فقير ذات اليد، وهو الغني والكبير بمبادئه وإرثه وطبابته التي لها فعل إكسير الحياة.
لنتصور دكتورا بارعا تعرفه القيادات العسكرية بعدن والغير العسكرية ، وتلمس منه كل هذا الرجل جدير بالمكافأة وبراتب شهري له ولأسرته في العراق الشقيق الذي هو البلد المنكوب الآخر، فهل يعود الشاهين من نكبة إلى نكبة في هذا الزمن الذي تنظر فيه منظمات حقوق الإنسان لإنسان كالشاهين بعد أن خذلته القيادات مجتمعة حتى من هم اليوم في محافظة عدن والذين يقومون فقط بعمل رسائل وقرارات، لكنها لا تلقي التنفيذ الفعلي ما يعني أن الدكتور لطيف كان يعيش على دعم ما، سواء من عدن أو لحج بمبلغ هو (50) ألف ريال، لكنه لم يصمد المبلغ وانقطع الصرف، وعاد الشاهين إلى عدن وظل على عيادته المتواضعة فلا راتب ولا دعم ولا حقوق، وحتى قرار المجلس المحلي بمحافظة عدن القاضي باعتماد (100) ألف ريال له كراتب، صار قرارا غير قابل للتنفيذ، وتساهلت قيادات محافظة عدن على تعاقبها، ومؤسستا الشرطة والجيش في عدن وصنعاء، تساهلوا كلهم في احتساب حق دكتور مهم، خدم البلد في أحلك الظروف واعتبر عدن هي بغداد، وأكثر من ذلك أنه يذهب إلى الأرياف تلبية لنداء مرضى لم يتمكنوا من الوصول إلى عدن، هكذا هو الشاهين الإنسان الذي لم ينصفه من هم يعرفون تضحياته وعطاءاته، ولم يعتبروه حتى مواطنا (باكستانيا) في هذه المهنة النبيلة للغاية، ونعلم أن (الباكستاني) يتقاضى (الدولارات) وليس الريالات لقاء جهده وعمله وهلم جرا.
شخصيا أنا تعاملت مع الطبيب الإنسان لعلاج أحد أقاربي وكان دليلي لمعرفتي به هو الدكتور/ عبدالوهاب شكري سواء عندما كانوا يعملون في (سجن المنصورة) في سنوات سابقة أم ما بعد ذلك وحتى اليوم، وكنت قد كتبت عمودا في صحيفة (التجمع) قبل سنين عن الدكتور ولكنه لم يحرك ساكنا وها أنذا أعيد الكرة لكي أناشد فيها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزيري الدفاع والداخلية أن ينصفوا هذا الدكتور الكفاءة النادرة وأن يمنحوه حقوقه عن سنين (القحط) التي عاشها وهو الذي خدم اليمن وعدن على وجه التحديد، ومن العيب أن نترك ابن الرافدين الشاهين يترك عدن طافشا متألما لضياع سنين شبابه وكفاحه هدرا، من العيب أن نترك الشاهين وعندنا (الباشق) الهمام الذي نعلق عليه الآمال الكبيرة في أن ينقل الوطن إلى بر الأمان، نناشد الباشق فخامة الرئيس أن يعطي الموضوع اهمية ولاشك في أن يستجيب للموضوع رجال حول الرئيس أمثال الأساتذة (د. علي منصور بن سفاع أمين عام الرئاسة، ومحبوب علي القباطي مستشار الرئيس لشئون الإعلام، ونصر طه مصطفى مدير مكتب الرئيس) فهم جميعا يعلمون مبلغ الألم الذي لحق بالدكتور الشاهين، وننتظر انصافه لا تركه يرحل إلى العراق خالي الوفاض وحقوقه أمانة في أعناقنا جميعا.
لقد طولنا على القارئ لكن الشاهين إنسان يستحق أن تبحث قضيته بتطويل واهتمام وأخذ الدرس لمحاربة الفساد وحفظ حق الناس دون ابطاء.
وللدكتور لطيف نقول: الله لطيف كريم يا أغلى الرجال، وإن شاء الله شدة وتزول، ولننتظر لعل في ذلك فرصة لإصلاح الحال وأنت تستحق ذلك يا أوفى الرجال.