مع كل ألوان الموت ورائحةِ الفُرْقَةِ في الشارع الجنوبي ومع كل الإحباطات التي ينتجها ابداع الكبار في اختلافاتهم ، الذين لم يكبرو بعد ... مع كل ذلك تظل القضية الجنوبية في قمَّةِ عنفوانها وقوتها وشبابها ، وببساطة شديدة فان الحنين إلى الاستقرار والنظام والقانون والحياة الانسانية الطبيعية يسري في شرايين كل من يتنفس هواءَ تلك الارض . ومن اجل ان يكون للحراك الجنوبي قدرات سياسية عملية فان ذلك يتطلب يقظةً واستنفاراً للعقول ذات المدى الواسع التي تمتد بصيرتها إلى ما وراء المرتفعات .
هناك حوار لم يدهشنا بشيء غير انه يوشك ان يضع بياناته على الحائط ويضع وجباته الرئيسة على الطاولة ، وهناك تعقيد حول فهم مآلات النزاع في صنعاء ، وهناك تخبُّطٌ في الرؤى الإقليمية والدولية بعد ان افتتحت مصر عهد الصراع المفتوح بين الدولة الدينية والدولة المدنية ، ولا أقول العلمانية لانها كمصطلح يتم توظيفه خارج مفاهيمه العميقة ، صراع شقَّ المجتمع بشكل عمودي وحاد ومرشح لان يمتد بالتدريج إلى بلاد العرب ، ويعيد حسابات الغرب في المنطقة وكذلك خارطة التحالفات ... فيه تتآلف وتتحالف قوى الإسلام السياسي من يمينها إلى يمينها في تضادّ مع القوى المدنية بكل درجات الطيف وتستنفر فيه الأطراف كلَّ مواردها ألِفاً ألِفاً وياءاً ياءاً حتى آخر الحكاية ، وتبدو الصورة اكثر تناقض والتباس عما ترسب في الأذهان .
في ظل هذه التوجسات الهائلة لا يوجد نبضٌ سياسي نوعي لدوائر الزعامات الجنوبية يشخِّص طبيعة الأيام القادمة ويضمن بل ويعزز حضور القضية الجنوبية كثابت في أي متغير ومهما تكن سماكة الضباب ، ويضع الإشارات المرورية للخروج رويداً من إرهاقات التباين واغلاق الباب امام الاستقطابات المملة والبدائية كموروث سياسي معيب ، والارتقاء إلى مستوى التحدي وتجاوز الكم الهائل من النماذج النمطية للتصريحات المكررة المضجِرة إلى شيء جديد لافت .
وفي هذا السياق نتمسك أكثر بالرأي الواضح بان على القيادات العودة إلى عدن لان هذه العملية هي القفزة النوعية الكبرى في تاريخ الحراك وإحدى أهم ركائز انتصار القضية الجنوبية .. العودة إلى عدن تعد أكبر المصادر النوعية للقوة السياسية والمعنوية لشعب لم يعد يرى من الحياة سوى الشعار الذي يلتف حوله والدماء التي تنزف . إن أي منطق واقعي يقول بان على أصحاب الحق النضال من أرضهم ، فلا يمكن لهم ان يعودوا على ظهر عربة أممية أو كاوتش إقليمي أو تسوية داخلية .. هذه الأمور باتت بعيدة المنال في الوقت الحاضر على الأقل ، فالمجتمع الدولي يجب إدهاشه بخطوة نوعية كبيرة على الارض تجذبه بشكل قوي ومؤثر ( قوي ومؤثر ) ، كما ينتظر إجابة شافية على تساؤلات ملحَّة نعلمها جميعنا .
إن عدن أجمل المدن وحين تكون جريحةً تكون فاتنةً اكثر فلا القاهرة ولا بيروت ولا كل مدائن الارض أبقى في قلوبنا وضمائرنا منها . عدن لا تحتمل الانتظار اكثر ، فهي مَن علمتنا الحياة والمدنية والمحبة والسلام وغفرت ولا زالت تغفر ذنوب وعيوب الولاةِ ، واصبحت بأمسِّ الحاجة للحرية فامنحوها حقها في المستقبل .