لم يكن يدر السؤال خلال الأيام القليلة الماضية حول كيفية وتكلفة فض اعتصامي جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها في ميداني رابعة العدوية والنهضة، بقدر ما كان الانشغال الذي يهم كافة أطراف الأزمة السياسية الراهنة في مصر هو ما يتعلق بإشكالية "اليوم التالي" Day After أي مرحلة ما بعد فض هذين الاعتصامين منذ منح أغلبية الشعب المصري تفويضًا لقوى الأمن والجيش بمحاربة "العنف والإرهاب المحتمل" في تظاهرات ضخمة خرجت يوم 26 يوليو الماضي على إثر دعوة من الفريق أول وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. إن محاولة استشراف اليوم التالي وما بعده اعتمدت على متغيرين جوهريين، أولهما: ما سبقه من تطورات متسارعة للتفاعلات الميدانية منذ الموجة الثورية في 30 يونيو الماضي، إذ يُلاحَظ أن رد فعل القيادة المصرية منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسي يوم 3 يوليو اعتمد على استجابة جماعة الإخوان وأتباعها وحلفائها، والتي لم تحمل أية مؤشرات لما يزيد عن 40 يومًا لاحتمال قبولها الحل السياسي للأزمة، بل اعتمدت خيار منع تثبيت المسار الانتقالي، وافتعال أعمال عنف متقطعة، وتعزيز وسائل فرض الاعتصامات لأطول فترة ممكنة، وانتهاج سلوكيات تستدعي فكرتين هما محاولة شق صفوف الجيش المصري من جانب، والسعي لاستجلاب التدخل الدولي بشكل مباشر أو غير مباشر من جانب آخر. أما الأمر الثاني فيتمثل في كيفية فض الاعتصامين، وما صاحبهما من تطورات من اندلاع أعمال العنف من قبل جماعة الإخوان في مختلف أنحاء البلاد، فقد أدت هذه السياسات "الإخوانية" الخاطئة المعتمدة على تهديد صورة الدولة وهيبتها إلى قناعة تامة لدى الحكومة المصرية والقوى السياسية بعدم وجود رغبة لدى معارضي المسار الانتقالي الجديد للمشاركة -أو على الأقل المساهمة- في إيجاد حلول فعلية للأزمة السياسية تأخذ بعين الاعتبار أننا أمام موجة ثورية أخرى، وأنه لا يمكن العودة للوراء؛ وهو ما قاد إلى لجوء قوات الأمن والجيش إلى عمليات فض الاعتصامين وفق أطر قانونية صحيحة، معتمدة خطة تقوم على أسلوب "الفض الشامل والخاطف" للاعتصامين وليس أسلوب "التدرج المرحلي" لعدة أيام؛ على نحو ما أشيع في عدد من وسائل الإعلام، ما يحمل معه إشارات واضحة حول الحزم والصرامة التي سوف تواجه بها السلطات المصرية الانتقالية الخارجين عن القانون والمعتصمين غير السلميين. وبناء على هذين المتغيرين السابقين يمكن تناول تكتيكات جماعة الإخوان واستراتيجية الحكومة المصرية بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة يوم 14 أغسطس في الآتي: أولا: تكتيكات جماعة الإخوان تشير التفاعلات السياسية، خلال الأسابيع الست الماضية، إلى أن جماعة الإخوان لم تمتلك استراتيجية واضحة المعالم لتحقيق أهدافها السياسية في القضاء على ما تعتبره "انقلابًا عسكريًّا" بقدر ما انتهجت تكتيكات اختارت سياسة حافة الهاوية لمصر ولنفسها، بل إنه يجوز القول بوجود خطأ نسبي في التصور السابق الذي قام على افتراض أن قيادات الجماعة وحلفاءها يسعون إلى تعزيز التفاوض وشروطه من خلال التمسك بالاعتصامات والعنف المتقطع وقطع الطرق وغيرها، فعلى النقيض من ذلك ثبت أن هناك قصورًا إدراكيًّا لدى الجماعة في حجم قوتها الفعلي الذي يُمكِنها من استعادة الأمور لما كانت عليه قبل 30 يونيو، وكذلك في تحركاتها على الأرض وتصريحاتها للداخل والخارج، والتي قادت إلى اقتصار مؤيديها على طرف واحد تراوح بين أعضائها وبعض حلفائها من تيارات الإسلام السياسي الأخرى. ويبدو أن هذا القصور الإدراكي هو ما سيشكل تكتيكات جماعة الإخوان في مواجهة السلطة الحاكمة، في الأيام التالية لفض الاعتصامات، ومن أبرزها: - إرباك الحكومة المصرية: بدا ذلك واضحًا عقب بدء عملية فض الاعتصامات، من خلال استهداف بعض المقرات الرسمية في محافظة القاهرة مثل الدور الأول في مقر وزارة المالية والعديد من المنشآت الحكومية مثل مباني المحافظات وأجهزة الحكم المحلي، بل امتد ذلك إلى مكتبة الإسكندرية، هذا إضافة إلى حرق بعض الكنائس في محاولة لإشعال الفتنة الطائفية في عدد من المحافظات التي تحظى بتواجد قبطي ملحوظ. كما أن الجماعة سوف تحاول إعلاميًّا استغلال استقالة الدكتور محمد البرادعي من منصبه كنائب للرئيس للشئون الدولية، علاوةً على معارضة بعض قوى الميدان الثالث لفض الاعتصام بالقوة، للترويج بوجود انقسام داخل الحكومة المصرية، وهو ما قد توازيه بعض عمليات التخريب وقطع الطرق، وربما محاولة شل قدرة بعض أجهزة الدولة، ولا سيما في المحافظات التي نجحت في هز هيبة الدولة بها، على أداء أدوارها الطبيعية اليومية. - تشتيت قوات الأمن: وهو أسلوب انتهجته الجماعة حتى مع وجود اعتصامي رابعة والنهضة، حيث كانت الجماعة تنشر بضعة آلاف في مناطق حيوية متفرقة بالقاهرة لتؤكد حضورها في ظل تشتيت قوات الأمن على أكثر من اتجاه، وتستمر في تسيير مسيرات وتظاهرات في كافة المحافظات دون استثناء حتى مع قلة أعدادها أحيانًا. وسوف تجتهد الجماعة في سبيل استكمال هذا التكتيك الذي سيصبح أكثر يسرًا في بعض المحافظات -حتى مع تطبيق حظر التجوال- إثر عودة المعتصمين إلى محافظاتهم، حيث يتوقع أن توازي الجماعة بين حشد مظاهرات سلمية أحيانًا وبين اللجوء لأعمال عنف وشغب تستهدف أقسام ومراكز الشرطة إما للانتقام أو السعي لاهتزاز هيبة الشرطة مجددًا. - افتعال مواجهات مع الجيش: وهو ما يعد استكمالا لموقف الجماعة الذي مفاده (الحكم أو الحرق)، إذ ترى أن الجيش هو المسئول عن كافة أحداث 30 يونيو وما قبلها وبعدها، لا سيما بعد تطبيق حظر التجول في 12 محافظة مصرية، وتكليف الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور للجيش بدعم الشرطة. لكن هذه المواجهة لن تكون من خلال استهداف بعض مقرات ومؤسسات الجيش المحصنة بشكل جيد، ولكن ربما من خلال محاولة جر عامة الناس من معارضيهم إلى حرب شوارع لا تتمكن الشرطة من التعامل معها، مما يستدعي قوات الجيش للاصطدام، وكذلك سوف تسعى الجماعة إلى اتهام السلطات المصرية، وعلى رأسها قيادات الجيش، بارتكاب "جرائم إنسانية" لدى بعض المنظمات الحقوقية الدولية الرسمية أو غير الرسمية. - تعطيل المسار الانتقالي: وهو ما يمثل هدفًا ثابتًا لجماعة الإخوان منذ عزل محمد مرسي، لكنه قد يأخذ أشكالا أكثر حدة، كأن تعود الجماعة لسياسة الاغتيالات لبعض الشخصيات الفاعلة، الدينية أو السياسية أو العسكرية، مما يربك المشهد السياسي، ويقلب الطاولة على الحكومة، ويهز شعبية القيادات الجديدة، وهو ما قد يشير إليه القتل الهمجي من قبل أنصار الجماعة لمأمورين وضباط شرطة ببعض الأقسام، وخاصة قسم كرداسة، بل يتوقع أن تقوم بعض القيادات الوسيطة بالجماعة بتشكيل مجموعات خاصة للقيام بتفجيرات متفرقة لإرهاب قوات الأمن والعامة، وخاصة إذا ما قاد ذلك إلى صراع مجتمعي ربما يؤدي لاستهداف مؤيدي الإخوان للمواطنين بشكل أو آخر. ثانيًا: استراتيجية السلطة الحاكمة كما كان الوضع قبل فض الاعتصامين، يبدو أن استراتيجية السلطة الانتقالية في مصر تعتمد في جانبها السياسي على التمسك بخريطة المستقبل، وإجراءات وتوقيتات تنفيذها، فيما تعتمد الجوانب الأمنية والدعائية والخارجية على رد فعل جماعة الإخوان وأنصارها. ويؤكد على ذلك عدم قبول السلطات المصرية التفاوض بشروط تعيد عقارب الساعة لما قبل 30 يونيو، وتطبيق إجراءات أمنية تتناسب بقدر كبير مع حركة جماعة الإخوان بالشارع، وهو ما تجلى في نهاية الأمر في الطريقة الحازمة التي تم بها فض الاعتصامات. وبناء على ذلك، إلى جوار ما نقلته بعض وسائل الإعلام من تقديرات سابقة للمخابرات المصرية نقلها الفريق السيسي للرئيس محمد مرسي قبل عزله تفيد بتوقع الجيش فترة انتشار أعمال عنف، تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر، يمكن القول إن الحل السياسي للأزمة سوف يتوقف من الناحية الفعلية على الأقل خلال هذه الفترة، وسوف يطغى المدخل الأمني. وسوف تعتمد استراتيجية السلطة الحاكمة خلال الأيام المقبلة على بعض العناصر أبرزها: - اعتماد الحل الواقعي: وهو ما يغلب عليه الطابع الأمني من أجل الحفاظ على هيبة الدولة، والحد من الخسائر بعد فض اعتصامات الإخوان، كما يتضح في فرض حالة الطوارئ وحظر التجوال في 12 محافظة مصرية، وملاحقة العناصر الإجرامية والقيادات التي مارست العنف والتحريض، واتخاذ تعزيزات قوية من قوى الأمن والجيش لمواجهة العنف المتوقع، وربما يصل الأمر وفق رد فعل جماعة الإخوان إلى اعتقال بعض مسئولي المكاتب الإدارية للجماعة في بعض المحافظات، بما يمس هيكل التنظيم الذي سيسعى إلى تكريس حالة الفوضى. - إكمال خارطة الانتقال الديمقراطي: جنبًا إلى جنب مع انتهاج استراتيجية المواجهة، سوف تقوم السلطات والحكومة بالتركيز مجددًا على إجراءات المسار الانتقالي، حيث يتوقع أن يتم عمل لجنة تعديل الدستور بشكل طبيعي خلال هذه الفترة. - تعزيز التعاضد الشعبي: وهو ما سوف يظهر من خلال استراتيجية إعلامية تتمسك بوحدة ثلاثية "الشعب والجيش والشرطة"، وتدعو المواطنين ضمنيًّا إلى مشاركة قوى الأمن في الحفاظ على المنشآت العامة والخاصة، بحيث تتزايد اللجان الشعبية للدفاع ليس فقط عن المساكن والمحلات الخاصة، بل يشمل أيضًا مؤسسات الدولة المختلفة. - مواجهة التوجه الدولي السلبي: وهو أمر متوقع من قبل السلطات المصرية، فرد فعل بعض القوى الدولية على فض الاعتصامات تشبه كثيرًا يوم عزل الرئيس محمد مرسي، وسوف يتم إرسال وفود لتوضيح الموقف، وإصدار بيانات وتصريحات تؤكد قانونية ما حدث، وتشرح كيف أن فض الاعتصامات قد تم وفق معايير دولية معروفة، ولم تمس أوضاع حقوق الإنسان، وذلك على الرغم من تيقن السلطات المصرية من أن ردود أفعال الخارج لا يمكنها أن تغير أساسات المعادلات الجديدة في مصر. ثالثًا: محددات أساسية إن أخطر ما يواجه إمكانية وجود حل قريب للأزمة الراهنة في مصر أن ثمة استراتيجيات متناقضة بين جماعة الإخوان والسلطة الانتقالية لم توجد بينها نقطة تقاطع واحدة منذ يوم 3 يوليو، وأنه لا يمكن أن تعمل كل منها بمعزل عن محددات أخرى تغلب مواقف ورؤى هذا الطرف أو ذاك، وتحدد المدى الزمني المتوقع لحدوث انفراجة ما. ويمكن إيجاز أهم المحددات عقب فض الاعتصامات "الإخوانية" مباشرة في الآتي: - قدرة قوات الجيش والشرطة على تطبيق حظر التجوال بحزم شديد، فالمحافظات التي سوف يتم تطبيق ذلك بها إما تمثل مناطق اشتعال للعنف، أو أنها الأكثر شعبية بالنسبة للإخوان؛ وبالتالي فالنجاح في ذلك يؤدي إلى الحد من أعمال العنف وانطلاق المسيرات والمسيرات المضادة. - ضبط حركة "سياسات الشارع"، وهو ما يرتبط بدرجة تأييد غالبية الرأي العام لمواقف السلطة وتراجع التعاطف مع الإخوان، بالتزامن مع المشاركة الشعبية مع قوات الأمن في مقاومة العنف والتطرف. - نمط اتخاذ القرار داخل جماعة الإخوان بعد فض الاعتصامات، إذ يبدو أن تشتت مراكز صنع القرار سوف يزداد، وهو ما تبدو سلبياته أكبر من إيجابياته، بالنظر إلى ما سكن في وجدان أنصار الجماعة أنهم ينصرون الدين ويرسمون التاريخ، ما قد يجعلهم أكثر عنفًا وعشوائية في ظل قيادة القيادات الوسيطة التي قد يغلب على بعضها الانتقام. - الدفع الثوري العام في محافظات النفوذ: إذ كلما استطاعت الجماعة حشد أنصارها في محافظات الصعيد على وجه خاص، وكذلك في محافظات أخرى مثل الإسماعيلية والسويس والبحيرة على سبيل المثال، دون حشود مقابلة، فهذا قد يعزز موقفهم بالمحافظات، بل ثمة مخاوف من إرباك العمل الحكومي مقارنة بالقاهرة، إذ قد تعوز بعضها التعزيزات والأعداد الأمنية الملائمة. وأخيرا.. يبدو جليًّا أن جماعة الإخوان سوف تسير باتجاه التصعيد الناتج عن عجز إدراكي واضح، وأنها بذلك لن توفر فرصة لنقاش أو حوار سياسي خلال الأسابيع المقبلة، فيما لا تجد السلطة الحاكمة أمامها سوى إعمال الحلول الواقعية، سياسيًّا وأمنيًّا، أما الضغط الخارجي فلن يؤثر في مجريات الواقع المصري كثيرًا، وهو ما يتوقع أن يسري على الأقل خلال الشهر المقبل على أقل تقدير، بحيث تتبلور ما يمكن أن نطلق عليه "الاستراتيجيات المضادة" بين طرفي الأزمة السياسية في مصر.