طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    4 إنذارات حمراء في السعودية بسبب الطقس وإعلان للأرصاد والدفاع المدني    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    الرقابة الحزبية العليا تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقه    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    الاحتلال يواصل توغله برفح وجباليا والمقاومة تكبده خسائر فادحة    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    صعقة كهربائية تنهي حياة عامل وسط اليمن.. ووساطات تفضي للتنازل عن قضيته    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    انهيار جنوني للريال اليمني وارتفاع خيالي لأسعار الدولار والريال السعودي وعمولة الحوالات من عدن إلى صنعاء    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    فودين .. لدينا مباراة مهمة أمام وست هام يونايتد    انهيار وافلاس القطاع المصرفي في مناطق سيطرة الحوثيين    باستوري يستعيد ذكرياته مع روما الايطالي    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    فضيحة تهز الحوثيين: قيادي يزوج أبنائه من أمريكيتين بينما يدعو الشباب للقتال في الجبهات    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    الحوثيون يتكتمون على مصير عشرات الأطفال المصابين في مراكزهم الصيفية!    الطرق اليمنية تبتلع 143 ضحية خلال 15 يومًا فقط ... من يوقف نزيف الموت؟    رسالة حاسمة من الحكومة الشرعية: توحيد المؤتمر الشعبي العام ضرورة وطنية ملحة    خلافات كبيرة تعصف بالمليشيات الحوثية...مقتل مشرف برصاص نجل قيادي كبير في صنعاء"    الدوري السعودي: النصر يفشل في الحاق الهزيمة الاولى بالهلال    في اليوم ال224 لحرب الإبادة على غزة.. 35303 شهيدا و79261 جريحا ومعارك ضارية في شمال وجنوب القطاع المحاصر    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    الحوثيون يعلنون إسقاط طائرة أمريكية MQ9 في سماء مأرب    السعودية تؤكد مواصلة تقديم المساعدات والدعم الاقتصادي لليمن    مسيرة حاشدة في تعز تندد بجرائم الاحتلال في رفح ومنع دخول المساعدات إلى غزة    المطر الغزير يحول الفرحة إلى فاجعة: وفاة ثلاثة أفراد من أسرة واحدة في جنوب صنعاء    بيان هام من وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات من صنعاء فماذا قالت فيه ؟    ميسي الأعلى أجرا في الدوري الأميركي الشمالي.. كم يبلغ راتبه في إنتر ميامي؟؟    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمنيون وصناعة الماضي: باصرة ضيفاً!
نشر في عدن الغد يوم 07 - 09 - 2013


كتب / امين اليافعي
(1)
كان على الدكتور صالح علي باصرة أن يجلس على كرسي الاعتراف لمدة شهرٍ كاملٍ، في برنامج بثته "قناة السعيدة" التي تنتمي إلى أولئك الأوائل من الخلصاء الأوفياء لمشروع "اليمننة".
البرنامج الذي جرى الإعداد له بشكلٍ طقوسي للغاية: شهر رمضان، وقبيل الفطور مباشرة، حين تُرفع الأعمال ويستجيب الدعاء، طبقاً للمأثورات.. وكان يجلس في "الحَضْرَة"، محمد العامري، ذو الهيئة التي توحي بكل معاني الصلاح والرشد والاستقامة.

وكان على البرنامج التلفزيوني؛ الذي ستحفه "ملائكة اليمننة"، سواءٌ أولئك المبعوثون من حقول الماضي، وأوكاره وفضلاته، أم أولئك "الملْمُوم" شملهم من شظايا الأمكنة، وشتات الأفضية، أن يأتي بما هو "قطعي الدلالة والثبوت". إنها لحظةٌ مفعمةٌ بالطقوسية والإيمان واليقين المُطلق، اللحظة التي لن تخامرها ذرة شكٍ لقول الحقيقة (AMoment of Truth)!

باصرة، أستاذ التاريخ، الذي نشأ على خلفيتين، الأولى قومية كان لها دور كبير في تكريس مشروع اليمننة على الجنوب في ظل صراعها مع الاستعمار البريطاني وبما ضمن لها مشروعية التدخل، خصوصاً أثناء تواجدها العسكري الكبير في الشمال بعد 62م. والثانية "اشتراكية"، أو تم تسميتها كذلك، سخّرت كل شيء كي يعود الجنوب إلى "الوطن اليمني المقدس" حسب تعبير الزعيم التاريخي للحزب عبد الفتاح إسماعيل، والمفارقة هنا، أنها لا تبعد كثيراً عن لغة أخرى رأت في مشروع الوحدة عودة "الفرع الضال إلى أصله النقي الطاهر". فكلاهما رأى في الوحدة "دينه السياسي"، وما عداه مروق وخروج ودنس! أما الاقتراب بالشك من حقيقة "الهوية اليمنية" للجنوب، ولو بأضعف الإيمان، وخزة بيضاء في قلب أحد المؤمنين؛ فلم يكن بمقدور أحدٍ من البشر على أرض الجنوب تَحمُّل تبعاتها.

وفقاً لذلك، علاوة على انه أحد القلائل الذين لم يُقْصُوا عن الوظيفة العامة، ويشترك، في وقت تسجيل البرنامج، بحوارٍ جاء تحت مسمى "الحوار الوطني"، أما أكثرها أهمية فهو اعترافه، بوقتٍ سابقٍ، وفي قناة السعيدة نفسها، بأن هوياته تكون على النحو الآتي: الحضرمية الجنوبية اليمنية (بهذا الترتيب)، لكل هذا، كان الدكتور باصرة، هو الضيف الأكثر ملائمة للجلوس على كرسي الاعتراف كي يُقَر بالخطيئة الكبرى التي يقترفها قومه (المارقون) بنكرانهم للهوية اليمنية جملةً وتفصيلاً!.

لقد حَرِص "القوميون اليمنيون" طيلة العقود الماضية، بجميع مصادرهم ومشاربهم، على بناء الماضي عن طريق إفراغه في صورة عمليات منتظمة، تسير وفقاً لمخطط محكم، وستؤدي بالضرورة إلى نتائج محددة ومقررة.

وفي الحالة اليمنية، كانت النتيجة التي حُدِّدت بروح الاستعادة، أي في حقبةٍ زمنيةٍ متأخرةٍ جداً، من قِبل المشغولين ببناء الهوية اليمنية خلال القرن الماضي تقضي بأن أربعين ألف عام من عمر الإنسان على هذه الأرض تسير في خط مستقيم، ليس فيه أي تفرعات أو شذوذ، باتجاه تشكّل ذلك الكائن الوديع، المنسجم، المتآلف، الذي يشد بعضه بعضا، والذي سُمّي بالمناسبة ب"اليمن".. دون الاهتمام بتحديد زمن اكتمال تشكله الدقيق، فيكفي القول هنا بأن التاريخ يتضافر ويسير نحو هذه الغاية المتفردة،ومحكوماً بقدرٍ لا مفر منه، وعناية عُليا!
هكذا تم تركيب الماضي بقالبٍ "أوغسطيني" (نسبة إلى القديس أوغسطين) ميتافيزيقي شمولي، لكن بدلاً من "القدر الإلهي" الذي يضبط الوحدة الباطنية والاتصال المستمر والذات الواحدة المتماسكة، كان هناك "القدر اليماني" الذي بدأ (يتفاعل) في نقطة زمنية لا بداية لها، ويسير عبر الزمن بوحدة لا تنتهي، وكل ما حدث وسيحدث: التاريخ بكليته، باتصاله وانفصاله، والجغرافيا بانبساطها وانقباضها، ما هي إلا تعبيرات وتمظهرات متعددة لروحٍ واحدةٍ، وجسدٍ وحيدٍ!... وكان على باصرة، بعد اعترافه ب "يمنيته"، أن يُقر كاملاً بالسياق التاريخي الذي تم فيه بناء هذه الهوية، فلا هوية بدون بناء وتكريس إيديولوجي صارم.. كان عليه أن يُثبِت المُثبَت، ويجعل هذا القدر الذي لا مفر منه أكثر جلاء، فيقطع قول كل مشككٍ، ويزيد المؤمنين إيماناً!


لكن اللحظة غير اللحظة، وباصرة غير باصرة حتى وإن كان كمتخصص في التاريخ قد انجرف وردد كثير من الترهات القومية فيما مضى. وليست المشكلة هنا مشكلة "باصريّة" خاصة، ولكنها معضلة منهجية تتعلق ب"مسألة الموضوعية". فمعرفة الماضي، حتى تلك التي تدّعي التخصص، لا تتم من خلال عملية تنجز في الحاضر فحسب، ولكنها، في الغالب، معرفة ينبغي عليها أن تستجيب لمتطلبات الوضع القائم أو تسعى لتحقيق غاية ما. وتبعاً لذلك، يقوم المؤرخ باختيار عدته وأدواته ومنهجه بما لا يتعارض مع هذه الشروط والمتطلبات المحددة مُسبقاً، فينعكس كل ذلك على ما يقوم به من إبراز وإقصاء، جمع وعزل، تقديم وتأخير، تأويل وتفسير، ترتيب وتصنيف، وما إلى ذلك من ممارسات مُوارِبة (بالضرورة) ينبغي أن تصل، في نهاية المطاف، إلى أحكام ونتائج جليّة.


كان عبدالله العروي قد كتب في مقدمة كتابه المرجعي الهام "مفهوم التاريخ" بأن الموضوع الأساسي هو المؤرخ لا التاريخ، التاريخ كصناعة لا التاريخ كمجموعة حوادث الماضي، الهدف هو ما يجري في ذهن رجل يتكلم عن وقائع الماضي، من منظور خاص به، تحدّده حرفته داخل مجتمعه. وفي هذا الصدد، تأتي مقولة باصرة الحاذقة جداً "بأن ليس هناك تاريخ؛ بل هناك وجهة نظر للمؤرخ حيال وقائع وحوادث الماضي"! (وهو وعيٌّ مُقدَّرٌ في بيئة يغيب عنها النقد كلياً، ويتم فيها بناء "الشمولية" بمنهاجية فائقة).


من هنا يمكن القول بأن البحث التاريخي، هو بحث لا يمكن أن ينفصل عن الباحث وعصره. لذلك فالتعرف على المؤرخ، وفهم الخلفية التي شكلته وصاغت قيمه الخاصة ومواقفه وتوجهاته الإيديولوجية والسياسية، والمراحل التي عاش فيها: طبيعة كل مرحلة، والأفكار والقضايا والهواجس التي تؤرقها، وتشكل ملمحها البارز.. إن فهم كل ذلك، فهماً جيداً، هو فهمٌ لتاريخ ذلك المؤرخ، والذي هو ليس بالضرورة التاريخ نفسه، حتى وإن قام المؤرخ باستنطاق الكثير من وثائق وأثريات ونُصب الماضي الخرساء، وفحص أخباره المتناثرة، والتي لا يمكن أن يستقيم لها سياق على أي حال. والأهم، من عملية "التَعَرُّف"،هي فهم الأحكام والنتائج المستخلصة الواقفة كغاية حرّضت على مثل هذا الاستحضار.

(2)
لنضع، إذن، حالة باصرة موضوعاً للمعرفة أو للتعرف في ضوء ما قاله مثلاً عن هوياته المتعددة (الحضرمية – الجنوبية – اليمنية)، والتي يمكن اعتبارها كحُكمٍ استقر بعد إطلاعٍ متخصصٍ على التاريخ وليس كمعرفةٍ عاميةٍ أو شعبيةٍ، ولنطرح إزاءها بعض الأسئلة: إذا ما افترضنا أن الدكتور صالح قد سُئِل عن هويته – هوياته قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، هل من المتوقع أن يقوم باستحضار هذه الهويات، وبهذا الترتيب؟ لماذا أقصى هنا، وفي هذه اللحظة، هويات أخرى، كالعربية والإسلامية والشرقية والأممية، لصالح هويات بعينها؟ ولماذا أيضاً اقتصر في ترتيب هوياته على البُعد المكاني/الجغرافي (الحضرمي – الجنوبي – اليمني)، وليس على بُعداً آخرٍ (اللغة، الدين..إلخ)، حتى وإن افترض دعاة كل هوية بوجود معنى ثقافيٍّ وحضاريٍّ راسخٍ تتشكل منه هويتهم؟ (ولسنا هنا بصدد فحص كل هوية، والتثبت منها، بقدر ما نهدف إلى توضيح مسألةٍ منهجيةٍ تتعلق بكون الأفكار، حتى تلك التي يُقال عنها موضوعية،تكون عرضةً للتقلّب والتبدّل تبعاً للأوضاع والوضعيات، والقضايا والهواجس التي تطرحها كل مرحلة).


جرت العادة في الأوساط البحثية الحديثة القول بأن الإنسان وبكونه فاعلاً اجتماعياً تكون جميع الأدوار التي يؤديها محل تفاوض، بحيث يصوغ كل فرد أداءه لدوره تبعاً لما يراه من متطلباتٍ لكل موقفٍ وتبعاً للباقين (الآخرين). ومن ذلك مسألة الهوية الجماعية، إذ هي ليست مجرد مسألة شخصية، بل توْلَد من خلال حوارٍ يُعاش مع الآخرين، على حد تعبير آدم كوبر.


واعتماداً عليه، فإن حالة الدكتور صالح يمكن رصدها من خلال مرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة الدولة في الجنوب، وهي مرحلة أشرنا إليها آنفاً، فالهوية اليمنية هي هوية واحدة وحيدة،أي ليس هناك ما هو أدنى منها أو مُضاهي لها، ولم يكن النظام القائم يسمح بالتشكيك بها، بل جعلها شرطاً أساسياً لنيل أي حقوق أو امتيازات. وقد درس باصرة وتخرج وتوظف وكتب كتبه وأبحاثه التي أهلته للترقية في كَنَف هذه المرحلة...وليس هذا فحسب، فهو كموظفٍ في جهاز الدولة كان مطلوبٌ منه أن يستجيب كلياً لمتطلبات هذه المرحلة، ونحن ندرك تماماً ما تعنيه "الاستجابة الكلية" في ظل نظامٍ شموليٍّ! ولن نكون مغالين بقولنا أن هذه المرحلة، هي أكثر مرحلة تعرض فيها "التاريخ" لتعامل إيديولوجي متعسفٍ، وعلى كافة المستويات.


أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة ما بعد 1994، وهي مرحلة أسدلت عن وجهٍ آخرٍ تماماً، وجه كان مخفيّاً وراء ركامٍ هائل ٍمن الشعارات المُخدِّرة، فلم تكن الهوية الواحدة الوحيدة، في واقع الأمر، سوى وهم إيديولوجي فادحٍ، وليس في المنال !.. فقد تفاجئ الجميع بكل تلك الهويات والتصنيفات، والتي لكل منها وضعيتها الخاصة وقيمتها ومنزلتها ومكانتها في سلم السلطة والمجتمع. وفي صنعاء،عاصمة "الوطن اليمني المقدّس"، لم يتم التعامل مع باصرة وغيره بوصفه يمني يحظى بالمكانة نفسها التي يحظى بها أي يمني آخرٍ، بل تم التعامل معه على أنه"حضرمي جنوبي"، أو "جنوبي – حضرمي"، تبعاً للحالة والمزاج، ليس فقط على المستوى الرسمي، ولكن أيضاً على المستوى الشعبي: في السوق والشارع والمؤسسة! (حادثة الشابين أمان والخطيب لافتة، فحتى في الشارع، كفضاء عام مشاع، هناك تصنيفات وتحديدات وامتيازات يجب أن تُحترم بشدّة واحتراس بالغ).


مجمل القول في هذه النقطة، وجد الدكتور صالح باصرة، أستاذ التاريخ، نفسه في ظل هذه الوضعيات: نشأ في بيئة كانت الهوية اليمنية قضاء وقدر، وفي كتبه وأبحاثه تعامل معها على هذا النحو، ثم عُومِل، في عُقْر دارها، ليس بوصفه يمني، بل بوصفه حضرمي-جنوبي. إن مزيج الوضعيتين قد جعل من الصعوبة التنكر أو التراجع التشكك حيال هويته اليمنية، ولكنه قاده إلى إنكار وجود هوية واحدة وحيدة شاملة، مما أنعكس على قراءته للتاريخ برفضه كل المزاعم القائلة بوجود تاريخٍ يتفاعل بتناغم منذ بدء الخليقة ومتجهاً نحو غايته المحددة، بل هناك تاريخ حافل بالصراعات والتنافر والتشظي!.

أما النقطة الأخرى، وهي النقطة التي كنّا قد طرحنا بصددها سؤالين: لماذا أقصى الدكتور صالح هويات أخرى لصالح هويات بعينها، ولماذا اقتصر اختياره لعنصر الانتماء على البعد المكاني؟..مثل هذه الأسئلة كان أمين معلوف قد حاول في كتابه ذائع الصيت "الهويات القاتلة" أن يفهمها، وهي محاولة جديرة بالإشارة إليها هنا لما لها من فائدة في توضيح وجهة نظرنا.


فالهوية لدى معلوف تتشكل من عناصر وانتماءات متعددة، والتراتبية بين هذه العناصر والانتماءات ليست ثابتة دائماً، ولكن الناس يميلون، في الغالب، إلى التعرف على أنفسهم في انتماءاتهم الأكثر عرضة للخطر. ولتوضيح ذلك، يقوم معلوف بعملية استقصاء متخيلة لرجلٍ في الخمسين من عمره يجوب شوارع سراييفو:

- حوالي عام 1980، كان هذا الرجل سيعلن بكل فخرٍ، ودون إرتباك: "أنا يوغسلافي". وإذا سُئل عن قربٍ، لأوضح أنه يسكن في جمهورية البوسنة والهرسك المتحدة، وأنه، للمصادفة يتحدر من عائلة مسلمة.
-وإذا صادفنا الرجل ذاته بعد اثني عشر عاماً، والحرب في أوجها، لأجاب بشكلٍ عفويٍّ، وبكل قوة: "أنا مسلم". وربما ترك لحيته تنمو وفقاً للشريعة، وربما أضاف فوراً أنه بوسني. وما كان سيحبذ مطلقاً أن نُذكّره بأنه كان يؤكد، قبل عشر سنواتٍ فقط، بكل فخرٍ انتماءه اليوغسلافي!
- واليوم، إذا سُئل، هذا الرجل، فسيعتبر نفسه بوسنياً أولاً، ثم مسلماً، وسيضيف بأنه يذهب إلى الجامع بانتظام، ولكنه سيؤكد أيضاً أن بلده تشكل جزءاً من أوروبا، ويأمل أن يراه يوماً ما منتسباً إلى الاتحاد الأوروبي.
- وإذا وجدنا الشخص ذاته، بعد عشرين عاماً، فكيف سيعّرف نفسه؟ أي من انتماءاته سيضع في المقدمة: أوروبي، مسلم/ بوسني، شيء آخر، بلقاني ربما..؟!
ولأن الغرض هنا لم يكن التعرض لمسألة الهوية بحد ذاته، بقدر ما كان توضيح الفكرة التي بنينا عليها وجهة نظرنا، وهي أن المرحلة التي يعاصرها أي مؤرخٍ أو باحثٍ وحتى أي شخصٍ عادي تمثل بالنسبة له الإطار الفكري الذي يتحكم في طريقة تناوله لأي موضوع، وتوجّه أغراضه، وتُحدِّد أحكامه وخلاصات نتائجه.

(3)
إن برنامج "قصة شعب"، موضوعنا الرئيسي هنا،والذي كان باصرة ضيفاً عليه طيلة شهر رمضان الفائت يُغري المرء بالتعليق، إنه يُغري من حيث كونه مثالٌ بارزٌ على الطريقة التي يلجئ إليها القوميون في سعيهم المضني إلى "اختراع " أمّتهم عن طريق إعادة تفسير جانب من التاريخ والثقافة بما يمنح الشعور بالاستمرارية والاتصال والوحدة. وبحسب بندكت أندرسن، في كتابه المرجعي الهام "الأمم المتخيّلة"، فإن القوميين هم من يبتكرون الأمم/الدول/الهويات في أماكن قد لا يكون لمثل هذه الأشياء من وجود سابق، على أن أهمية هذا الابتكار تكمن في خلق فكرة تفيد بأن الأمة لم تُبتكر أصلاً، أو بتعبير آخر، يجب نسيان ابتكارها. فأسطورة التأسيس يجب أن تقوم على أن الأمة كيان طبيعي، راسخة أعيد اكتشافها من جديد، وليس شيئاً مصطنعاً، واعتباطي، وعرضي في طبعه، حتى لا تبدو هناك أي مشكلة في مصداقية الانتماء إليها.

وكنّا قد أشرنا في المقدّمة إلى طريقة الإعداد والتحضير الطقوسية للبرنامج، ويمكننا أن نُشير هنا أيضاً إلى العنوان "قصة شعب"، ذي الإيحاء الآسر بمعاني الوحدة والاستمرارية الممتدة منذ الأزل، ويفيض بالألفة والتلاحم والرومانسية، فهو "قصة" وليس "تاريخ"، بما ينسجم كلياً مع الذهنية القومية الموجّهة بقسوة والتي تتأسس على الابتكار على حد تعبير أندرسن. لكن، ويا للمفارقة هنا، فالمفهوم "قصة" قد يكون هو الأنسب استخداماً في هذا السياق، من وجهة نظر ناقدة، لكنه لا يفي بالغرض الأساسي من استخدامه، بل هو على تضاد معه بطريقة غريبة. ف"قصة" (story)، تشير إلى تدخل عامل الخيال في تأليف الحدث، أو ما يسميه المختصون بالبناء المتخيل، حتى بات الخيال هو العنصر الأساسي في تصنيف أي كتابة على أنها قصة؛ وعلى على عكس ما ينبغي أن يكون عليه التاريخ، فالمختصون معنيون أولاً، وقبل كل شيء، بالتثبت فيما إذا كان الحدث قد كان واقعاً حقاً في الماضي أم مجرد خيال.

أما استخدام المفهوم "شعب"، فتذكرني بتعليق لمارك بلوخ في كتابه "التاريخ الإقطاعي"عن الطريقة التي تُصُّور بها مريم العذراء في رسومات المجتمع القروسطي بملامحٍ "ساميّة" وبأزياء قريبة إلى ذوق ذلك العصر الذي لم ير في التاريخ أي انقطاعات بين الماضي والحاضر، وقد شبه تلك الطريقة بالطريقة المتبعة في المسرح والسينما عند تقديم قصة من الماضي، فالملابس والخلفية التي تجري فيها الأحداث، تبدوان وكأنهما في الوقت الراهن، أو وقتٍ قريبٍ منه، وعلى ذوقه تماماً. واستخدام المفهوم السياسي الحديث "شعب"، وبسطه على كل الماضي وكأنك تقول للناس: "لقد كنّا هكذا طوال التاريخ، ومنذ أبونا أدم: شعباً واحداً!"، هي طريقة تشبه طريقة استخدام الملابس والخلفية في السينما والمسرح للتعبير عن الماضي!.

إن القصة القومية لا بد أن تكتمل فصولها، ولا بد أن تكون منتظمة ومتناسقة وشمولية. لكن هل هي حقيقية؟ فذلك، ربما، ليس هو الموضوع، بل قد لا يهم إطلاقاً مثل هذا السؤال في سياقٍ كهذا (من وجهة نظر الدراسات الحديثة التي اهتمت بالحالة اليمنية في السنوات الأخيرة، وهي دراسات ذات إدراك ومعرفة بدلالات وتحديدات المفاهيم الحديثة، منها مفهوم "الشعب"، ترى أن الأفراد الذين يتكون منهم "الشعب"، يشكلون، بطريقة ما، جمهوراً، لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله. وربما مثل هذا الرأي قد يجد له صدى في المورث الفكري العربي الإسلامي، فالقرآن مثلاً ميّز بين "الشعوب" و"القبائل"، ولم يعتبرهما شيئاً واحداً، أو أن يكون بينهما نوعاً من أنواع التكامل).

لكن لا داعي للقلق، فالقوميون اليمنيون، سواء الأصليون والمنتحلون والسائرون نياماً في الحشد، سيفاجئونك بعنادهم الصّم عند الحديث عن معتقداتهم وابتكاراتهم وترهاتهم وكما لو كانت دائمة وثابتة وذات يقين مطلق لا يقبل الشك. أما أكثر ما سيفاجئك، وأنت مولعٌ بتتبع الصيغ والقوالب القومية المختلفة، الخطاب القومي الحاسم والمتشنج الذي يجري ترديده حتى وإن كان في تعارضٍ شديدٍ مع المعتقدات والممارسات الأصلية أو تلك التي يُعلن عنها صراحةً... سيفاجئك، مثلاً، "القبيلي" الذي أتى من خلفيةٍ قبليةٍ مغلقةٍ تتسم بقابليةٍ مطلقةٍ للانقسام والانشطار بحديثه القومي المتشدد، وتمجيده لقيم الوحدة والتوحد و"اليمننة"، ولن يُمانع في إعطاءك محاضرة طويلة عن أهمية هذه القيم، أو يجرد سلاحه للدفاع عنها، إذا اقتضى الأمر!... سيفاجئك "الزيدي" بشقّيه: "الجغرافي" الذي لن يقر له قرار إلا بوجود حاكم "زيدي" على رأس السلطة في صنعاء (خذ ما يُسمى الآن ب"الحراك الشمالي" كمثال بسيط)، و"المذهبي" الذي لا يرى صلاحاً في "الأمّة اليمنية" إلا إذا كان لها إمامٌ من قريش، بحديثهم المستفيض عن اليمننة المغروسة في عمق طبقات الأرض، والممتدة عبر الزمن منذ خلق الله أبونا أدم!... سيفاجئك "الشيوعي-الأممي" الراسخ الذي حثّه ماركس كبروليتاري أصلي على أن "يحسم الأمور في بلده مع برجوازيته الخاصة أولاً" في سبيل "الأمّة الاشتراكيّة" المنشودة والذي تم تفسيره في الأوساط الماركسية اللاحقة على أن "القومية أو أي دعوة إقليمية أخرى هي مرضٌ من أمراض التطور التاريخي الماركسي" أو بأن "القومية هي العلامة على الإخفاق الكبير للمشروع الماركسي-الأممي".. سيفاجئك هذا ببلاغة شبيهه بالبلاغة الكولونيالية، كما وصفها أحدهم، وهو يجتهد في تطويع كل القيم والمبادئ والغايات الإيديولوجية ويربطها بتحقيق الهدف الكبير، هدف الوصول إلى الوطن المقدّس، حيث، فقط، ستتحقق الحرية والتنمية والتقدم الاجتماعي وكل الأهداف والغايات المُثلى!...

ولن يكون "الشيخ" المذيع محمد العامري، مُقدّم البرنامج، والسلفي المتمرس، هو أخر من يُفاجئك في هذا السياق اليماني المظفر. فلا تقلق حين تجده يُصِر مراتٍ كثيرةٍ على مقاطعة باصرة، وبنزقٍ طفولي عنيد، كي لا يكف عن الحديث عن "سبأ"، سبأ وفقط، وحين يأتي الحديث عنها، تجده يجهش بالأسئلة، فلا تعجب، إذن، من قوله تعليقا على ذكر "ملوك سبأ": «يا سبحان الله، القبائل عَمَلَت دولة مدنية في ذلك الوقت»، وكيف يمكن لسلفي أن يجيز مثل ذلك التناقض الفج في العبارة، عدا عن قوله؟ وليس في هذه العبارة فقط، فالرسول قد وضع أساساً للتعامل مع الماضي، يقوم على مبدأين: "مبدأ الاتصال" والذي يلخصه قوله «بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق» (المستدرك من الصحيحين)، و"مبدأ الانفصال أو الانقطاع" وهو مبدأ يمكن فهمه من خلال توبيخه الشهير لأبي ذر الغفاري «إنك امرؤ فيك جاهلية»(البخاري) وكذلك من خلال الآية «إنه ليسَ مِن أهلِك» (هود: 46)، ولكن بطريقة معكوسة في المسار الزمني بين الأجيال... ولن يجد شيخنا العامري (السبئي) الحرج في الافتخار بكثيرٍ من أنسابه الذين أرسل الله عليهم صنوفاً شتى من العذاب وجعلهم عبرةً للمؤمنين، طالما كان في "الحضْرَة اليمانية"، حتى وإن عارض معتقداته معارضة فادحة!.


تتعدد التفسيرات حول الدوافع الجوهرية وراء نزعاتٍ كهذه: منهم من يرى أن الفوائد الاقتصادية والسياسية تلعب دوراً محوريّاً في هذا الصدد، فالباحث كرس شور وجد أن الحماس من أجل "القومية الأوروبية"هو على أعظمه في الأقاليم الأكثر فقراً، بينما يفضّل الناس في الأقاليم ذات الدخول المرتفعة إلى أن يكونوا مواطنين ل"بلد أوروبي" على أن يكونوا "مواطنين أوروبيين"، وقد ذهب، في خاتمة بحثه، إلى القول بأن «تشكيل الهوية مشروط ب"مدركات المنفعة"»... أما بيير بورديو فيرى أن خطاب الهوية بمجمله هو عبارة عن هامش للمناورة، ومورد استراتيجي، يستخدمه الفاعلون الاجتماعيون" كرهان يستهدف إعادة إنتاج علاقات الهيمنة أو قلبها". فيما يذهب توماس أريكسن، والذي يرى أن القومية هي نظرية لل"شرعنة السياسية"، إلى القول بأن الدول القومية هي دولٌ مُهيّمنٌ عليها من قِبل مجموعات عرقية، ممن تتجسد معالم الهوية فيهم، لكنهم ينكرون هويتهم العرقية مقدمين أنفسهم، بدلاً من ذلك، ك"مواطنين ببساطة" أو كبشر.


قد تكون هذه الدوافع تعمل كمجموعات عمل متضافرة، أو قد تكون لكل مجموعة دوافعها الخاصة التي تعمل بشكلٍ منفردٍ، لكنهم جميعاً يستترون بخطابٍ طالما جرى إظهاره، بتزمت، على أنه خطاب المؤمنين الوحيد. وهذه حالة بحاجةٍ إلى دراسة أوسع لنقد وتفكيك هذا الخطاب الشمولي في تضافره، والذي يشدّو بعضه بعضاً. فالنُخب تقوم بعملية التصنيف والتحديد وفقاً لأسطورتين، كما سماها مصطفى حجازي، "أسطورة الخير" و"أسطورة الشر"، تتوزع بين: "وحدويين" و"انفصاليين"، "مؤمنين" و"كافرين"، "أصلاء" و"شراذم"، "بنائيين" و"تفكيكيين"، "محسنين" و"مارقين"...إلخ، بدلاً من الدفاع عن حرية الإنسان في الاختيار. فيما تقوم القوى التقليدية بالافراط في استغلال مثل هذه التصنيفات لتقوم على طريقتها الخاصة بمهمة التطهير والدفاع عن الهدف الجليل، وكما فعلت في حرب 94. ولا مناص هنا، في كون النخب والقوى التقليدية ستكون مشتركة، وبنفس القدر، في أي جريمة من هذا القبيل قد تُرتكب في المستقبل إذا ما بقي الخطاب النخبوي، على ما هو عليه، كخطاب شمولي فج!
*خاص لصحيفة "عدن الغد"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.