لو سنحت لي الفرصة كجنوبي بالاختيار بين: الوحدة الاندماجية، والوحدة الفدرالية، واستعادة دولة الجنوب، سأختار بدون أي تردد استعادة الدولة، طبعا مش لأني ضد الوحدة كوحدة، فانا بطبعي ميال للتعايش مع الآخرين، وامقت بشدة التعصب للجماعة أو للمنطقة، وكنت من أكبر المتحمسين والمدافعين عن الوحدة اليمنية، ولا لأني لا اطيق أخوتنا في الشمال، فانا ضد العنصرية وضد التميز بين البشر مهما كانت مبرراته أو الوانه، و بشكل عام فانا احترمهم، وأعرف منهم العديد من الأشخاص الرائعين، ومن هم أفضل منا علما وخلقا واستقامة، ولا لأني أكره أرضهم فطبيعة مناطق الشمال الجميلة والخلابة لا يمكن مقارنتها بمناطقنا الصحراوية القاحلة، ولا لأني لا أود أن يشاركوني ثروة منطقتي فانا انحدر من منطقة جنوبية وعرة وفقيرة، حتى حجارها لا تصلح للبناء، ولا حتى لأني مقهور من الظلم والذل الذي مارسه حكامهم علينا في الجنوب، والذي دفع بأهله ليس لكرة الوحدة فحسب، بل ولحياتهم فيها، إلا أني رغم ذلك أدرك أن الحكام ممكن أن يتغيروا، والأخطاء والمظالم ممكن أن تتعالج، والسياسات ممكن أن تتبدل، وإنما فقط لأني على قناعة راسخة بحكم المامي بتاريخ اليمن بصعوبة، قيام دولة نظام وقانون في صنعاء حتى بعد مئة سنة، فالقبيلة هناك لها قوة وسطوة كبيرة، وضاربة جذورها في أعماق المكان والزمان.
قد يعتقد البعض أن ما ذهبت إليه خاطئ، أو ربما مبالغ فيه، لكن في كل الأحوال هذه قناعتي التي تمنيت أن أجد أي سبب أو مبرر يجعلني لا اقتنع بها، صحيح اننا أحيانا نستطيع أن ننعم أو نلطف قناعاتنا حتى تبدو لنا أقل قسوة وأخف مرارة، لكن الصحيح أيضا أن الحقيقة تبقى كما هي حقيقة بصرف النظر عن رأينا أو نسبة قناعتنا بها. لا يستطيع أي مهتم في التاريخ أو حتى في السياسة أن لا يعترف أن القبيلة تستبد بمناطق الشمال منذ عهود موغلة في القدم، وأن لها تأثير عميق في ثقافة وسلوك الناس لا يمكن انتزاعه بسهولة. وحتى لا يعتقد البعض أني اروج لقناعة متشائمة، أو مغرضة، فإني لا أنكر أن هناك إمكانية من حيث المبدأ لتقليص سطوة القبيلة، إذ لا شك في أنه لو توفرت الإرادة والقدرة لأي قوى حاكمة، لاستطاعت الحد من درجة نفوذها، ولو على مراحل.
لكن السؤال المهم في ذلك أو بالأصح المحبط هو: من هي تلك القوى التي بإمكانها أن تقوم بتلك المهمة؟ في حين أن القبيلة لا تفرض نفوذها على مناطقها فحسب، بل وتتحكم منذ نصف قرن تقريبا بالسلطة نفسها، بسياستها وباقتصادها وجيشها، وحتى في نشاط أكبر احزابها السياسية. قد يكون من الإنصاف الإشارة إلى أن هناك أصوات في الشمال تدعو لقيام دولة مدنية حديثة، ولعزل القبيلة عن السلطة، لكن من الإنصاف أيضا التأكيد على أن تلك الأصوات محدودة ومحصورة، وليس لها تأثير يذكر على الوعي العام للمجتمع، وقد لا نبعد عن الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن صداها لا يتجاوز غرف الندوات والاجتماعات التي تقال بها، أو صفحات الصحف التي تكتب عليها. مع الأسف الشديد لا توجد في الوقت الحالي قوة سياسية او شعبية ضاغطة ومؤثرة يمكن التعويل عليها في تحرير السلطة والمجتمع في الشمال من هيمنة القبيلة، وإقامة دولة حقيقية في السنين القريبة.
المحزن أن القوى القبلية في الشمال بدلا من أن تتراجع مكانتها وتتآكل بنيتها، بفعل ظروف العصر، كما حصل في كل مجتمعات العالم التي كانت لها بنية قبلية شبيهة، تحقق تقدم وتفوق مطرد على غيرها من القوى الأخرى، فنفوذها لا يستمد قوته من أرث الماضي وحسب، ولكن من الظروف والإمكانات التي أتيحت لها في الحاضر، والتي من المؤكد أنها ستظل متاحة لها ولمدة طويلة في المستقبل، فاستغلالها لموارد وثروات البلد جعل نفوذها يتوسع ويتعمق بصورة لم يكن يعرفها من قبل.
ومن باب التأكيد فقبل ثورة سبتمبر كان بمقدور الإمام أن يدرج أي شيخ قبلي يخالف سلطته السجن، وحتى الحكم عليه بالإعدام كما حدث في سنة 59 مع الشيخ حميد حسين الأحمر شيخ مشائخ حاشد، لكن بعد الثورة وبعد الوحدة من هو ذلك الشخص أو الوزير أو حتى الرئيس الذي بإمكانه أن يرفع صوته حتى في وجه طفل من أطفال هؤلاء المشايخ الذين يستبدون بالبلاد والعباد. وختاما، الله يرحم الرئيس الحمدي الذي دفع الثمن حياته لمجرد أنه فكر تفكير فقط في وحدة حقيقة، وفي تأسيس دولة تستطيع أن تحد من سطوة القبيلة.