ما يعتمل في منطقتنا من أحداث وتطورات دراماتيكية ومتسارعة أشبه ما يكون إلى مسرح العبث أو ألا معقول الذي لا تتقيد فيه الدراما في سياق منطقي ثابت لأن ما شاهدناه في الأسابيع القليلة الماضية حيث خيمت أجواء الحرب على المنطقة لدرجة بدأت في وسائل الإعلام الغربية تتبارى في ما بينها بالانفراد بالسبق الصحفي لتحديد موعد الضربة العسكرية , ولكن فجأة بدون مقدمات استفاقت شعوبنا على مناخ يجنح إلى السلم والتهدئة عبر التفاهم الأميركي الروسي بشأن الكيماوي السوري وما تلاه من تحديد لمؤتمر جنيف2 , والأبرز من كل ذلك كانت التقارب الإيراني الأميركي الذي توج بالمكالمة الهاتفية بين أوباما وروحاني في نيويورك خلال انعقاد الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة الأمر الذي أزعج حلفاء واشنطن وخاصة السعودية , الذي وعلى غير عادتها أعلنت الامتناع عن إلقاء كلمة المملكة في الجمعية العمومية , ولاحقاً رفض قبول عضوية مجلس الأمن عن المجموعة العربية بحجة أن المجلس فاقد المصداقية ويمارس ازدواجية المعايير . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا على ماذا تدل هذه التطورات وماذا توحي لنا هل هناك صفقة كبرى لكل ملفات المنطقة أم أن الأمر لا يعدو كونه مناورة سياسية وتكتيك سياسي مرحلي تفرضه الضرورة , بالتأكيد كل الاحتمالات ورادة ويصعب على المراقب مهما بلغت فطنته الاستقرائية والاستدلالية تحديد بالضبط ما يدور في الكواليس والغرف المغلقة .
ولكن ما يمكننا تأكيده هو أن الولاياتالمتحدة بقرارها العدول عن الحرب وبتلك الطريقة التي سارت عليها الأحداث يعتبر تراجعاً بل وهزيمة سيما وهي التي دأبت على قيادة العالم وكأنها قدر محتوم مسلط على شعوبها ولفهم هذا التراجع الأميركي علينا العودة قليلاً إلى السنوات الثلاث الأخيرة بما سمي بالربيع العربي الذي بقدومه تطلعت شعوبنا العربية للتخلص من حالة الاستبداد الجاثمة على صدورها وأن تحلم بغد تسود فيه قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة وبدلاً من ذلك كان هناك عقل جهنمي يخطط في الغرف السوداء أراد استثمار الربيع العربي وتوجيه بوصلته لخدمة أجنداته السياسية فظهر على السطح اتفاق أميركي تركي قطري يقضي بإيصال حركات الإسلام السياسي وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون إلى السلطة في بلدان الربيع العربي , بعد أن عمل أردوغان وأمير قطر على تسويق حركات الإسلام السياسي إلى الغرب على أنها تيار معتدل لا يشكل خطر على مصالحه ولا حتى على إسرائيل . وإن أولوياته داخليه قضايا اقتصادية واجتماعية مثل التنمية والبطالة وغيرها من الأمور الحياتية , وأن على الغرب ألا يخشاهم لأنه في حال وصولهم إلى الحكم يمكن قيام هلال سني يمكنه مواجهة الهلال الشيعي ولاحقاً محاصرة الصين وروسيا باعتباره هدف استراتيجي للسياسات الغربية في المستقبل .
وبالفعل نجح المشروع في تحقيق أهدافه ووصلت جماعة الإخوان المسلمون إلى الحكم في العديد من البلدان لكنها لم تستفد من اللحظة التاريخية التي منحت لها بعد أن كانت محظورة لعشرات السنين ملاحقة على الدوام واليوم تجد نفسها تتربع عرش السلطة وبدلاً من إيجاد المعالجات الصحيحة لقضايا المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وأن تقوم بإجراءات ثورية تتناسب والظرف الثوري الذي أتى بها إلى السلطة بحيث يشعر المواطن بمردودها الايجابي عليه , وأن يسيروا بلدانهم على طريق التقدم كما حصل في بلدان مثل سنغافورا , ماليزيا , تركيا , البرازيل , الصين .
وبدلاً من ذلك عملت جماعة الإخوان على إلغاء الآخرين شركاء الميدان والثورة والمعتقلات وأرادت السيطرة على مفاصل الدولة , ما عرف بأخونة الدولة غير مكترثة بأصوات الآخرين المعترضين وأثبتوا للعالم خوائهم الفكري وبأنهم شعار بلا جوهر وبانه ليس لديهم أي رؤية أو تصور لبناء الدولة والمجتمع وكل ما يريدونه هو الوصول إلى الحكم كغاية وليس وسيلة ولهذا أسقطوا في فترة قياسية لأن الشعوب الذي ثارت ضد الاستبداد بعناوين مدنية رفضت الاستبداد المغلف بشعارات دينية وبذلك تبخرت أحلام أردوغان باستعادة الأمجاد العثمانية وانهارت طموحات أمير قطر النابليونية ومنيت أميركا خسارة كبيرة , جعلها تعيش حالة من الارتباك والتخبط والتردد . أنه مأزق يضاف إليه الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها جعل منها وحش منزوع المخالب .
لقد حلت الفوضى والاستقرار ببلدان الربيع العربي , فمصر و تونس تعيشان حالة من عدم الاستقرار مع انفلات أمني, و في اليمن هناك تجاذبات سياسية حادة بالإضافة إلى القلاقل الأمنية والاغتيالات المتنقلة .
أما ليبيا فلا يمكن الحديث عن دولة موحدة بل اصبحت فريسة لأمراء الحرب قادة المليشيات المسلحة التي جعلوا منها كيانات مستقلة لنفوذهم. وسوريا تعيش مأساة الحرب الأهلية الدامية التي تحصد الأخضر واليابس .
لقد تبددت الآمال والأحلام فعوضاً عن شعارات الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية التي بحثت عنها شعوبنا حلت محلها معاناة وعذابات تختزلها كلمات مثل فوضى , ذمار , تشريد , شهداء , جرحى , ومستقبل مجهول .
وسنحاول استعراض أهم محطات مشروع الإسلام السياسي الذي أراد توظيف موجة الربيع العربي لخدمة أجنداته على طريقة كلمة حق يرتد بها باطل . قطر بداية الانطلاقة ونهاية الحمدين
لعبت قطر دوراً قيادياً في توجيه دفه الربيع العربي لخدمة مشروع إيصال جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم , وفي تلك البلدان بالتنسيق والتواصل التام مع تركيا وأميركا كلاً في إطار الدور المنوط به , ومن شاهد أمير قطر وهو يزور ليبيا بعد مقتل القذافي وما بدأ عليه من زهو وغطرسة لاعتقدنا بأنه الفاتح صلاح الدين الأيوبي , ولكن المفارقة العجيبة بأن صلاح الدين حرر القدس من الصليبيين , بينما أمير قطر حرر ليبيا المسلمة السنية بمساعدة الناتو , أما من تابع رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم , وهو يستدعي وزراء الخارجية العرب لإعطائهم التعليمات وكأنهم موظفين لديه وليس ممثلين لدول ذات سيادة .
لا يستوي الحديث عن دولة قطر ودورها الإقليمي بدون الإشارة إلى قناة الجزيرة التي تعتبر سلاح أمير قطر الفتاك لترويج وتسويق سياساته وتقوية نفوذه في المنطقة , يضاف إليه المال الوفير الذي يكتنزه الأمير الذي سمح له بشراء ذمم كثير من السياسيين , والمثقفين , والفنانين .
اضطلعت الجزيرة في سياق ما سمي بالربيع العربي بمهمات سياسية واستراتيجية تجاوزت حدود الدور الإعلامي الذي يفترض بأنها أنشأت من أجله لتصبح بحق غرفة عمليات سياسية وعسكرية واستخبارية تقود وتنسق وتنظم كل المسارات في بلدان الربيع العربي لتصب في نهاية المطاف في خدمة المشروع آنف الذكر , والذي يقضي بمساعدة تيار الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة وإزاحة كل الخصوم المحتملين عن طريقة . اعتمدت الجزيرة في سياساتها الاعلامية على ثلاثة مستويات :
(1)المستوى الأول يرتكز على البرامج السياسية والحوارية وأهمها نشرة الأخبار الذي أصبحت تأخذ حيزاً هاماً من المساحة الإعلامية للقناه وتميز أداءها بالانحياز السافر وعدم الموضوعية والمهنية والنزاهة الذي نص عليها ميثاق الشرف المهني الذي اعتمدته القناة , فالغاية عندهم تبرر الوسيلة كما أصبح التظليل واختلاق الأكاذيب والشائعات جزء رئيسي من السياسة الخبرية للقناة وابتدعت مفاهيم دخيلة على القاموس الإعلامي الذي يتوجب من أصحابه توخي الدقة والنزاهة والحيادية والموضوعية عند نقل الأخبار , وظهرت مصطلحات مثل شاهد العيان الذي يروي كل شيء بما يخدم أهداف المحطة , ولكن المشاهد لا يعلم من أين يتحدث هذا الشاهد الذي ربما يتحدث من استوديوهات القناة بالدوحة .
لقد كان التحريض والتهييج والتجييش الممنهج هو السمة الغالبة على برامجها السياسية وكان برنامج بلا حدود الذي يقدمه الإعلامي أحمد منصور أخواني بامتياز , تخصص في تلميع قادة الإخوان المسلمين الذي دأب على استضافتهم وحرص في برنامجه على اظهارهم كشخصيات مدنية متنورة في تقديمهم للرأي العام لتسهيل قبولهم كقيادات جديرة للوصول إلى الحكم وكان منبره بمثابة دعاية انتخابية لجماعة الإخوان المسلمين .
أما برنامج الاتجاه المعاكس فكان شعلة الشاغل سوريا , حيث سعى فيصل القاسم مقدم البرنامج في معظم حلقاته الذي خصصها بمهاجمة النظام السوري حتى أنه في بعض الأحيان يفقد توازنه وأعصابه ويصبح طرفاً في السجال الدائر وليس محايداً كما تقتضي الأمانة المهنية . (2)المستوى الثاني: للأداء الإعلامي للقناه
كان الخطاب الديني والمذهبي الموجة والذي أوكل إلى الشيخ القرضاوي وانحصرت مهمته في مخاطبة الرأي العام الملتزم دينياً والذي يتأثر في لغة التحريض المذهبية والدينية من خلال تصوير الصراع وكأنه بين قوى الإيمان وهؤلاء يمثلهم الإخوان المسلمون , والطرف الآخر قوى الكفر والفسق والطغيان وهؤلاء هم التيارات المدنية على اختلاف مشاربها والذين يسمون بعرفهم بالعلمانيين والمسار الآخر للخطاب الديني للقرضاوي أعتمد على التحريض المذهبي المباشر ومخاطبة أهل السنة والجماعة ودعوته للجهاد ضد الشيعة لما يشكلون من خطر على أهل السنة , ولكن لا نراء فتاوى القرضاوي في الدفاع عن أهل السنة في فلسطين وبتلك الحماسة الهستيرية ولم نسمع دعواته للجهاد لنصرت القدس لأن القدس ليس أولوية في مشروع سيدة أمير قطر .
(3)المستوى الثالث من أداء القناة
ركز على مخاطبة التيارات المدنية اليسارية والقومية والليبرالية , وهذا الدور تكفل به المفكر عزمي بشارة من خلال برنامجه الأسبوعي حديث الثورة . حيث عمل على توظيف كل قدراته وطاقاته الذهنية والعقلية لاستقطاب تلك الفئات المجتمعية من خلال تصوير الأمور بأنه صراع ليس من أجل مشروع الإسلام السياسي الذي هو موظف صغير عند سيدة الكبير , بل هو صراع من أجل قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية , وكانت أحاديثه عبارة عن توجيهات لتلك التيارات المدنية , لما ينبغي عملة في كل مرحلة من مراحل الربيع العربي , ويتضح من ما أوردناه حقيقة الدور الذي قامت به قناة الجزيرة في إطار مشروع دعم تيار الإسلام السياسي وفق قاعدة تنطلق من مبدأ تشويه من يراد شيطنته وتلميع من يراد إبرازه , ولكن رغم تلك الجهود والإمكانيات الهائلة الذي أنفقها أمير قطر ودور جزيرته إلا أن مشروعة قد تهاوى وسقط في مزبلة التاريخ . لأن الأمير نسى أو تناسى بأن المال والإعلام يمكن أن يؤثر في نفوس البعض وربما الكثيرين لكنه لا يمكن أن يصنع ثورة من الخارج لأن الثورة كما تعلمنا من تجارب التاريخ هي حالة داخلية تنتاب المجتمع عند توفر الظروف اللازمة لها , ومن أهمها رفض الأغلبية الساحقة من الشعب الوضع القائم ولحكامها ووجود النخبة الثورية القادرة على قيادة الجماهير ووجود البرنامج والأهداف التي تلتقي حولها الجماهير ونخبها .
ذهب الحمدين وخفت نجميهما ولا زالت الدماء تسفك وحالة الفوضى العارمة تدب في كل مكان وهي نتيجة مباشرة لسياستهما في المنطقة فل نترك الحكم لله وللتاريخ على كل ما فعلوه بشعوبنا . مصر : الانتحار الجماعي للإخوان
تلقت جماعة الإخوان المسلمين ضربة قاصمه بعد الإطاحة بالرئيس مرسي وأنهت مشروعهم الذي كافحوا من أجلة ثمانين سنة ليحلموا بتلك اللحظة الذي يصلون فيها إلى السلطة وإذا بأحلامهم تذهب أدراج الرياح , ومصر تكتسب أهمية خاصة نظرا لمكانتها ووزنها الإقليمي ولأن مصر أكتسب فيها الإخوان مشروعيتهم الشعبية والثورية ومصر هي مهد انطلاقة حركتهم منذ المؤسسين الأوائل حسن البناء وسيد قطب , ولذا كانت الصدمة مؤثر جداً في جسم الإخوان , تركت صداها عربياً ودولياً , حتى إن أردوغان وحكام قطر اصيبا بالذهول وهم الرعاة الإقليميين لجماعة الإخوان ولذا يمكن فهم حالة الهستيريا التي يعيشها أردوغان وقناة الجزيرة , وبدلاً من أن تقوم جماعة الإخوان المسلمين بمراجعة شاملة نقدية لتقييم تجربتها وأداءها السياسي وأسباب الإخفاقات والأخطاء التي ارتكبتها , وبدلاً من ذلك لجأت إلى سياسة الهروب إلى الأمام من خلال المعاندة والمكابرة في تحدي إرادة الشعب المصري وهو الانتحار الجماعي الذي تقود نفسها إليه وإن دل على شيء فإنما يدل على غباء سياسي وقصر نظر. فلم تخرج الملايين لمساندتهم كما كان الحال أبان ثورة 25 يناير , ومن يخرجوا إلى الشارع هم المئات من أنصار الإسلام السياسي الذي لن يغير في المعادلة السياسية ومن ما عمق أزمتهم هو إقدامهم على استخدام العنف مما يعتبر مسمار الأخير في نعش مسيرتهم .
إن من أهم أسباب نكسة الإخوان المسلمين هو ارتباطاتهم المشبوهة بالخارج وخاصة مع الغرب الذي عقدت الصفقات معه لتسهيل وصولها إلى السلطة الأمر الذي قيد حركتها في الحكم من خلال التزامات التي قدمتها للغرب فهي لم تستطع القيام بإجراءات اقتصادية ثورية عاجلة لانتشال مصر من وضعيتها الراهنة نضراً لالتزام جماعة الإخوان بسياسات صندوق النقد الدولي الذي هي أحد أٍسباب إفقار الشعوب , والسبب الآخر هو تعهدهم باستمرار اتفاقية السلام مع إسرائيل وهو ما يناقض كل شعاراتهم السابقة المناهضة لإسرائيل ومواصلتهم حصار قطاع غزة وقد وصلت محاولاتهم استرضاء الغرب بقيامهم بهدم الإنفاق بمياه الصرف الصحي وهو ما لم يقم به مبار ك نفسه , وأخيراً قطع العلاقات مع سوريا وإعلان الجهاد عليها كل ذلك كان بمثابة تقديم أوراق اعتماد مجانية لأميركا وإسرائيل ولعلى من أهم الأسباب السقوط المدوي للجماعة هو تعميق كراهية غالبية الشعب لهم نتيجة لمحاولاتهم الاستئثار بالسلطة وإلغاء الآخرين من خلال فرض دستور على مقاسهم والاستحواذ على جميع مفاصل الدولة ليثبتوا من خلال ذلك للشعب المصري بأنهم طامحوا سلطة , وأن مصلحة الجماعة فوق مصلحة الشعب الذي يفترض أنه هو من أنتخبهم ليعبروا عن مصالحه .
لقد عانت جماعة الإخوان دوماً من الملاحقات السياسية والقضائية والأمنية وأودعوا السجون لمرات كثيرة , وقد تم حضر نشاطهم في مراحل كثيرة من تاريخ مصر المعاصر إلا أن الحضر والملاحقات كانت تأخذ طابع رسمي سلطوي مما أكسبهم تعاطف شعبي باعتبارهم مظلومين , ولكن في هذه المرة يأتي الحظر شعبياً بعد أن رفضهم ولفضهم الشعب المصري وهي المرة الأولى في تاريخ الجماعة .
أن تدخل القوات المسلحة المصرية والتقاطها لذلك الزخم الشعبي الرافض لسياسات الإخوان وإزاحتها من الحكم جنب مصر الكثير من الويلات والله أعلم ما كان ينتظر مصر لو استمرت جماعة الإخوان بتنفيذ سياساتها الذي أحدثت انقساماً عميقاً في المجتمع المصري ربما لأصبحت مصر ليبيا جديدة أو لا سمح الله سوريا نتيجة للدعوات المطالبة بتشكيل الجيش المصري الحر على غرار الجيش السوري الحر لا شك أن مصر تمر بمرحلة تاريخية فارقة نتمنى لها أن تتجاوزها بخير ولكن ما أنا واثق منه هو أن النخب المصرية على اختلاف انتماءاتها أثبتت وعي ونضوج سياسي منقطع النظير يضع في مقدمة أولوياته مصلحة مصر العليا وهو قلما ما نراه في الدول العربية الأخرى وهي الأولوية المقدسة التي تحافظ على الدولة المصرية ككيان وطن وهوية . اليمن : صراعات حاشد وبقية اليمنيين
لم يعتقد اليمنيون وهم يملئون الساحات بالملايين الغفيرة ويهتفون لإسقاط نظام صالح بأنهم مجرد وقود مشتعلة في لعبة صراعات حاشد , علي صالح وعائلته والمنتفعين منه , وعلي محسن , وأولاد الأحمر , ومن يدور في فلكهم أما بقية اليمنيين فهم أما متفرجين أو أدوات في تلك النزاعات , لقد حرصت شركة حاشد السياسية في إرساء قواعد اللعبة الذي لا يجوز تجاوزها تحت أي ظرف من الظروف , بمعنى أنه مهما بلغت المواجهة السياسية والذي هي وفي الأساس صراع على مراكز النفوذ والثروة .
أن تكون قاعدة النزاع هي حاشد كمرجعية وباعتبارها المؤسسة القبلية الحاكمة الذي من غير المسموح خروج السلطة من أحد أطرافها ولذلك وجدنا حاشد تتناسى خلافاتها في مؤتمر الحوار عندما وصل الأمر إلى الطرح الجدي لتقسيم اليمن إلى أقاليم متعددة , لان في ذلك التقسيم وجدت المؤسسة القبلية الحاكمة حاشد فيه مؤشر على انتزاع السلطة منها وتناست أجنحة حاشد بشقيها المؤتمر علي صالح وعائلته , والإصلاح , اولاد الأحمر , وعلي محسن تناسوا تناقضاتهم وخلافاتهم وأصبحت ثانوية أمام الخطر الداهم المحدق على القبيلة كمؤسسة حاكمة ورأيناهم يقفوا كتله واحدة صلبة ضد فكرة الأقاليم بل أرادوا تمييعها وجعلها شكل بدون مضمون حتى يتسنى لهم الإمساك بمقاليد السلطة في نطاق القبيلة .
يبدو أن الخوف الذي ينتاب أطراف حاشد وصل حد الهوس بإمكانية ضياع السلطة والثروة منهم , وجعلهم يغفلون حقيقة هامه تتعلق في البعد الزماني والمكاني للحظه التاريخية التي تمر بها اليمن ودخول عوامل ومؤثرات أخرى على المشهد اليمني وهي أقوى وأكبر من إمكانات حاشد ومتفرعاتها . فاليمن صار عملياً تحت الوصايا الدولية وأصبح لدية مندوبان ساميان وهما جمال بن عمر , ممثل الأمين العام للأمم المتحدة , والسفير الأميركي اللذان أصبحا يقودان المسار السياسي لليمن بأدق تفاصيله اليومية بمعنى آخر أصبحنا جزء من الصراع الإقليمي والدولي الدائر في المنطقة والعالم , وما سيترتب عليه سينعكس تلقائياً على المشهد اليمني , ولذلك نعيش مرحلة انتظار ربما تطول أو تقصر وذلك مرتبط بما ستؤول إليه الأمور في المنطقة سواء في إطار التسوية الكبرى أم استمرار المواجهة الساخنة بين الأطراف الإقليميين والدوليين , وهل ستحسم لطرف على حساب آخر .
وهناك لاعبون آخرون لهم حيثياتهم على الأرض لا تستطيع حاشد القفز من فوقهم حتى العامل الخارجي يأخذها بالحسبان عند معالجة الشأن اليمني ومن هؤلاء اللاعبون :-
جماعة الحوثي
الذي استفادت كثيراً من صراعات حاشد الذي أضعفتها كثيراًَ وتقوت شوكتها وتوسعت وتمددت ووصلت حتى أسوار العاصمة صنعاء وما خفي كان أعظم , وقوة الحوثي تكمن في كونه جزء من التركيبة القبلية التي تحكم صنعاء ولذا يتعامل مع حاشد بنفس اللغة التي تفهمها وهي امتلاكه للسلاح والمال والإعلام والنفوذ القبلي المتزايد وتكمن خطورته من كونه يمتلك مشروع خاص به وقيادة مركزية متماسكة لذا فهوا رقم صعب في الخريطة السياسية اليمنية , ويستحيل تجاوزه وليس بغرابة ان نسمع الزنداني يعرض عليهم خمس الثروة في محاولة يائسة وبائسة لاستمالتهم إلى القبيلة الحاكمة بمعنى الدعوة لتقاسم النفوذ والثروة على اعتبار أن الحوثي أصبح أمراً واقعاًَ ينبغي التعامل معه , إذا أرادت المؤسسة القبيل الحاكمة الحفاظ على سلطتها .
الحراك الجنوبي
هو الآخر عامل مؤثر وفعال في المشهد اليمني وهو الممثل الشرعي للقضية الجنوبية ونتاج طبيعي لنضالات الجنوبيين من اجل الحرية والاستقلال من هيمنة شركة حاشد للفيد سواء كانوا مؤتمريين أو إصلاحيين فأمام الشعب الجنوبي هم من أجتاح الجنوب في عام 94م., ودأبوا طوال هذه الفترة الماضية على طمس هويته التاريخية والثقافية حتى وصلت بعض الأصوات في صنعاء تزعم بأن لا يوجد شعب جنوبي أصلاً وإنما من يقطن في الجنوب هم عبارة عن مهاجرين من الهند وأندنوسيا والصومال , وهذا ليس بغريب فهذا يعكس العقلية القبلية التي تحكم اليمن , والذي رفضها الجنوبيين وأعلنوا للملأ استحالة التعايش معها , لقد ذهب الجنوب إلى الوحدة طواعية وقدم لها دولته الذي كان فيها مؤسسات دولة وقانون ومواطنة متساوية بحدودها الدنيا قدماها قرباناً لهدف نبيل هو تحقيق الوحدة اليمنية , ولم يكن يتصور الجنوبيين بأن الوحدة تلك لم تكن سواء غنيمة استباحتها مؤسسة حاشد الحاكمة لتستولي على الأرض والثروة والعباد , كل ذلك أدى إلى رفض شعبي جنوبي شامل انبثق عنه الحراك الجنوبي الذي يقود نضال سلمي حضاري أمام أعتى مؤسسة قبلية همجية مدججة بالمال والسلاح لديها طابور طويل من المنتفعين ممن تم شراء ذممهم وولاءاتهم ضماناً لخدمة حاشد .
أن اليمن يعيش على مفترق طرق لأن مشاكله كثيرة ومزمنة وليس مصادفة أن يقع الاختيار على عبده ربه منصور , ليحكم اليمن مؤقتاً باعتباره الإطفائية الذي عليه إطفاء حرائق البلد وعدم السماح بانتشارها حتى يتم تقرير مصيره لاحقاً ولا سيما بعد فشل مشروع الإخوان المسلمون في اليمن , أيضاً إذا كان من المفترض أن يصبح دور عبده ربه منصور , كالمشير طنطاوي فعلية تسليم السلطة إلى إخوان اليمن كما حدث في مصر بحيث تتم العملية بسلاسة وضمن نطاق اللعبة الديمقراطية , ولكن بعد أن فشل المشروع وظهرت وقائع جديدة أصبحت الأمور أكثر تعقيداً من ذي قبل , والمؤسف حقاً أن تختزل الساحة اليمنية في معادلة سياسية قوامها أطراف حاشد وجماعة الحوثي والحراك الجنوبي , أما البقية فهم أما متفرجين يندبون حظهم العاثر أم مجرد أصوات وإن كانت مسموعة إلا أن تأثيره محدود ولا يصل إلا حد التأثير على مركز القرار في صنعاء . سوريا: استعادة التوازن الدولي
المأساة السورية شغلت وتشغل العالم بشلال الدم النازف على أراضيها وتدفق أعداد هائلة من النازحين الباحثين عن مأمن يأويهم ولقمة خبز تطعمهم أما مشاهد المدن والقرى المدمرة كل ذلك يشير إلى عمق المحنة التي تعيشها سوريا .
ما يحدث على الأرض السورية تجاوز الحدود المحلية الداخلية ليتحول إلى نزاع إقليمي دولي ضروس ربما هو الأول من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية , حيث هذا الاشتباك الحاد قد أدى إلى انقسام العالم إلى معسكرين الأول يتزعمه الغرب وحلفائهم الإقليميين والآخر البر يكس ومن يقف معهم من دول المنطقة.
لقد راهن الغرب وشركاؤهم في المنطقة على إسقاط النظام في سوريا بسرعة قياسية كما حصل في مصر وتونس ليستكمل مشروع الإسلام السياسي طريقة إلى بقية الدول مثل الجزائر والعراق وإيران , وبذلت الدول الخليجية الغنية الغالي والنفيس لإسقاط النظام السوري من خلال الحرب الكونية التي شنوها عبر الحملة الإعلامية المسعورة التي لا سابق لها في التاريخ المعاصر , وعندما فشل الرهان على الاحتجاجات العفوية في بادئ الأمر لتتحول إلى ثورة شعبية تسقط النظام وأغفل هؤلاء بأن الثورة لا تصنع في الخارج وأن المال والأعلام والتحريض غير كافي لوحده لتحريك الشارع لأن الثورة لا تنجز إلا عبر مسار تاريخي موضوعي تحدده حركة الشعوب .
صحيح أنه في بداية الأحداث كان في سوريا مظاهرات واحتجاجات وإن كانت أقل جماهيرية مما كانت عليه الحال في مصر وتونس واليمن إلا أنه سرعان ما تدخل العامل الخارجي الذي أصبح يقود ويوجه تلك الاحتجاجات من الخارج . الأمر الذي افقدها استقلالية القرار وأصبحت خاضعة بالكامل لأجندات الخارج والذي لم يكن يهمه مصلحة الشعب السوري , بل أراد التدمير الممنهج للدولة السورية ضمن أجنداته المشبوهة التي خبرناها في فلسطين والعراق والسودان وأصبح السوريين مجرد أدوات يزج بهم إلى المحرقة من خلال تدفق المال والسلاح والتحريض المذهبي والطائفي إن من يرفع شعار الحرية ويريد التحرر من الاستبداد والطغيان لا يمكن أن يرهن نفسه للخارج , الأمر الذي يفقده الاستقلالية في اتخاذ القرار وتصبح حينها أجنداته غير وطنية لأنه أصبح يرى قضايا بلادة في عيون الآخرين وللأمانة أقول لو كان هناك ثورة شعبية حقيقية في سوريا لما أمكن للنظام أن يبقى أسبوعاً واحداً ومهما بلغ جبروته ومهما كان الدعم الروسي والصيني والإيراني لأن إرادة الشعوب لا تقهر وهذه هي صيرورة الحياه
ثم انتقلوا إلى مرحلة جديدة من مخطط إسقاط النظام وتمثل في الإغراءات المالية لشراء الذمم من خلال ما سمي بانشقاقات , بعدها أقدموا على تشكيل الجيش الحر على أمل أن يستطيع حسم المعركة والوصول إلى القصر الرئاسي وبالتالي إسقاط النظام , بعد أن فشلت كل تلك الرهانات تم الزج بالقاعدة وبأصحاب الفكر التكفيري باعتبارهم مقاتلين أشداء لا يخشون الموت ويمكنهم إلحاق الهزيمة بالجيش النظامي وتحقيق النصر وهو لم يتحقق أيضاً حينها اضطرت الولاياتالمتحدة للدخول مباشرة في الحرب كطرف من خلال تهديدها باستخدام القوة ضد سوريا وحبس العالم أنفاسه لأن الحرب كانت واقعة لا محالة حسب كل التقديرات والتوقعات ولكن فجاه انقلب المشهد تماما رأساً على عقب وصار الحديث عن مؤتمر جنيف2 للسلام والتفاهم الروسي الأميركي بشأن التخلص من الأسلحة الكيماوية السورية الأمر الذي وضع حلفاء واشنطن في مأزق عبرت عنه الموافق الهستيرية للسعودية الذي شعرت بأن أميركا تخلت عنها من خلال توجسها من وجود صفقة ما بين الروس والأمريكان , ربما تكون على حسابهم وزاد من قلقهم عندما شعروا بأن هناك تقارب أميركي إيراني يوحي بأن شيء ما يحضر من تحت الطاولة .
لقد نسي حكام الخليج الذين ربطوا مستقبل مشيخاتهم وأماراتهم بالقرار الأميركي نسي هؤلاء بأن أميركا دولة رأس مالية برجماتية تحكمها المصالح وليس المبادئ وصاحب القرار هناك لديه عقل بارد يجيد التفكير والاستنباط بشكل تجريدي وفق حساب الربح والخسارة بمعنى آخر تبيع وتشتري في المزاد السياسي حسب منطق الضرورة فإذا اقتضت المصلحة الأميركية البيع فلن تتردد لحظه قط وهذا ما شاهدناه من تجارب التاريخ حين تخلت أميركا عن شاه إيران ورفضت حتى استقباله وكذلك برويز مشرف وشيفرنادزة , وغيرهم أميركا ليست جمعية خيرية تحكمها المشاعر الإنسانية النبيلة وما نعرفه من التاريخ المعاصر أن أميركا لا يمكن أن تفرط بأمرين أساسين أولهما الطاقة ومصادرها وطرق تأمينها وثانيهما أمن إسرائيل وما عدا ذلك كل شيء يمكن أن يكون مطروح في مزاد البيع والشراء السياسي .
لم نعد نسمع بأن النظام السوري أيامه معدودة وبأن نهايته أمر حتمي وما هي إلا مسألة وقت فقط ولم يعد أحد يتحدث بأن قوات المعارضة أصبحت على بعد كيلو مترات قريبة من القصر الجمهوري ولم نعد نسمع بأن الرئيس السوري يقبع في باخرة روسية على شاطئ البحر لحمايته بل أصبح الآن نجماً تلفزيونياً تلهث وراءه وسائل الإعلام الغربية من خلال إطلالاته المتكررة ليدافع عن وجه نظرة من الأزمة السورية .
لقد أصيب مشروع الإخوان المسلمين بخيبة أمل كبيرة بسوريا الذي فرملت قطارة المسرع بل وأبعدته نهائياً عن السكة لتتم لاحقاً مراسيم دفنه في أرض الكنانة مصر وبفضل ما يحدث في مصر وسوريا أنتقل المشهد السياسي في المنطقة ليأخذ معالم واتجاهات جديدة وهو مواجهة بين تيار الإسلام السياسي أخوان سلفيين تكفيريين وغيرهم وبين التيار المدني ليبراليين قوميين يساريين وغيرهم وإن كان لا يزال في طور التشكل والصياغة الفكرية الشاملة صراع حول مفهوم الدولة والمواطنة وما هي مرجعيتها مدنية أم دينية وإذا كانت دينية قائمة على الشريعة الإسلامية فمن هو صاحب الحق في تفسير الشريعة لأننا لسنا في زمن الخلفاء الراشدين لأن تجار ب الدول الدينية في الزمن المعاصر لا تبشر في الخير ولا يوجد حولها إجماع مثل تجربة السعودية وإيران وطالبان وحتى نظام الإخوان في مصر الذي لطالما أدعى مرجعتيه الإسلامية وشعاره الشهير الإسلام هو الحل لم نرى فيه من الإسلام شيئا خلال فتره حكمه غير اللحى الطويلة والشعارات الدينية الخالية من المضمون .
هذه المواجهة في تقديري ستستمر وستتبلور في شكل قوالب فكرية يتمسك بها كل طرف وأتمنى أن يظل الجدل فكرياً ونظرياً لا أن يتطور إلى الجسد بما يعنيه ذلك من اللجوء إلى العنف من أجل إلغاء الآخر وهو معيب عانت وما زالت تعاني أمتنا من ويلاتها حتى يومنا هذا , ومن رحم المأساة السورية هناك مخاض عسير لولادة نظام دولي جديد ينهي أحادية القطبية الأميركية ويؤسس لعالم متعدد الأقطاب يأخذ بالحسبان مصالح الجميع ولا سيما القوى الصاعدة الجديدة البريكس .
أن مؤتمر جنيف2. هو أشبه بمؤتمر يالطا أبان الحرب العالمية الثانية بتقاسم النفوذ بين الدول الكبرى وأصبحت سوريا ممر الزامي لأي تسوية قادمة لأنها رسمت خطوط التماس الجديدة لعالم ما بعد الحرب الباردة , أن العالم يخشى من أن تتحول سوريا إلى أفغانستان وتركيا إلى باكستان وهما القريبتان من أوروبا ولا سيما بعد تراجع الجيش الحر وسيطرت القاعدة وأخواتها داعش والنصرة وغيرها على مساحات من الأراضي السورية ولذلك يبدو التوجه الجديد هو لمحاربة التطرف بكل أشكاله الدينية والقومية وغيرها .
المؤسف حقاً أننا نحن معشر العرب لم نعد لاعبون أساسين بل أصبحنا ملعب يتبارى على أرضنا الآخرين فهل نعتبر من دروس الماضي دروس فلسطين والعراق والسودان