قد تترك شوارع بغداد شعورا زائفا عند زيارتها للوهلة الأولى: مكتظة بالمواطنين، مرحبة بزائريها، تدب الحياة في ميادينها. ولكن قد تتحول في أي لحظة ومن دون سابق إنذار إلى مشهد من أقسى مشاهد العنف: سيارات محترقة، أرصفة ملطخة بالدماء، ومتعلقات مبعثرة لضحايا قضوا في أحد الانفجارات التي باتت العاصمة العراقية تعيش على وقعها في الأشهر الأخيرة. عندما زرت بغداد في يناير الماضي، كان المرء يستطيع أن يذهب في المساء إلى أحد المقاهي، أو السير في بعض طرقاتها وأزقتها من دون أن تسيطر عليه مشاعر الخوف.
أما اليوم، فتتغير حياة العراقيين في بغداد خوفا من الانفجارات العشوائية، انتحارية كانت أو عن طريق سيارات مفخخة أو عبوات ناسفة، تستهدف أماكن تجمع المواطنين كالمقاهي والمطاعم وحتى المساجد والحسينيات.
يقول عمر، وهو شاب في السادسة والعشرين من العمر ويطمح أن يكون دبلوماسيا،: "لا نشعر بالأمان واعتدنا مشاهد العنف، ماكو (لا يوجد) الشعور بالاطمئنان. في الأشهر الماضية، كانت الهجمات تستهدف السيطرات (مواقع الشرطة والجيش) في أطراف العاصمة وخارجها، اليوم: الكل مستهدف".
اللافت هو أنه لا توجد جماعات ظاهرة تعلن مسؤوليتها عن تلك الهجمات التي تستهدف الشيعة والسنة من المدنيين على حد سواء، مقارنة ببعض الفترات في السنوات العشر الأخيرة، والتي تخللها عنف بلغ أوجه بين عامي 2006-2008 عندما اكتوى العراق بمواجهات طائفية خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى.
"لا نشعر بالأمان واعتدنا مشاهد العنف، ماكو (لا يوجد) الشعور بالاطمئنان. في الأشهر الماضية، كانت الهجمات تستهدف السيطرات (مواقع الشرطة والجيش) في أطراف العاصمة وخارجها، اليوم: الكل مستهدف."
عمر، شاب عراقي في السادسة والعشرين من العمر
لكن يستطيع العراقيون أن يحددوا الجهة التي تقف وراء الهجمات وفقا للطريقة المستخدمة، كما يقول عمر، الذي فضل عدم الكشف عن لقبه، وهو ما يعكس مشاعر القلق التي تنتابه جراء العنف المستمر.
ويضيف: "إذا كان هجوما انتحاريا، إذن فمنفذ أو منفذة الهجوم من تنظيم القاعدة، فهذه العقلية الانتحارية تجدها فقط لدى القاعديين، الذين يفضلون أيضا السيارات المفخخة، أما إذا كان الهجوم بواسطة عبوات ناسفة، أو مسدسات مزودة بكواتم للصوت، فعلى الأرجح أن يكون منفذه من إحدى الميليشيات الشيعية السرية. ولا نستبعد أيضا وقوف دول أجنبية وراء تمويل تلك الجماعات، خاصة بسبب الطبيعة الطائفية للصراع في سوريا (التي تقع على الحدود الغربية للعراق)."
إجراءات أمنية مشددة تتعرض الحكومة لضغوط متزايدة بسبب عجزها حتى هذه اللحظة عن وقف العنف الدائر، الذي حصد نحو خمسة آلاف عراقي وعراقية، من بينهم أطفال، منذ مطلع العام الجاري، بحسب حصيلة لوكالة الأنباء الفرنسية وفقا لمصادر طبية وأمنيه.
"الأمر الباعث على الاطمئنان حتى الآن هو أنه ماكو (لا يوجد) تأييد شعبي لتلك الهجمات التي تحمل طابعا طائفيا. نحن العراقيين نكره الطائفية، ولكن نخشى أن استمرارها (الهجمات) قد يجر العراق لمواجهات طائفية دامية من جديد"
ختام، ربة منزل عراقية
ذهبنا في موكب أرفع شخصية عسكرية في بغداد أثناء توجهه للقاء زعماء عشائر التاجي شمالي بغداد. يحاول الفريق عبد الأمير الشمري أن يقنعهم بإحياء "مجالس الصحوات"، تلك المجموعات السنية المسلحة التي شكلتها القوات الأمريكية عام 2007 بالتعاون مع زعماء القبائل، لمحاربة فرع تنظيم القاعدة في العراق.
يعرف المسؤولون جيدا نجاح تجربة "مجالس الصحوات"، التي أطلق عليها لاحقا "أبناء العراق"، في طرد القاعدة من المناطق السنية في غرب البلاد، ويريدون اليوم استحداثها تحت اسم "فصائل أبناء العراق."
يقول الفريق الشمري في تصريحات لبي بي سي: "لا نطلب منهم أن ينضموا لقوات حكومية أو أمنيه، ولكن نريد منهم أن يساعدونا في حماية القرى والمدن كما كانوا يفعلون بشجاعة وبسالة في الماضي عن طريق الحواجز الأمنية وما شابه، أبناء القبائل والعشائر جزء لا يتجزأ من الخطة الأمنية لدحر الإرهاب."
أطلقت السلطات العراقية منطادا للمراقبة فوق مطار المثنى في وسط بغداد.
بدأت السلطات بالفعل في بغداد اتخاذ إجراءات أمنية جديدة في الشارع العراقي، من بينها استخدام كلاب بوليسية مدربة في نقاط التفتيش التي تنتشر في العاصمة وتقطع شوراعها. لا يوجد عدد كاف من تلك الكلاب المدربة للعثور على المتفجرات، ولكن تعتزم وزارة الداخلية نشر المزيد منها لاستبدال "أجهزة السونار"، تلك الأجهزة الصغيرة التي تبدوا إلكترونية والتي لا تزال تستخدم وبكثرة في العراق، على الرغم من أن تحقيقا لبي بي سي عام 2010 أثبت عدم فعاليتها، بل وحكم بالسجن على مصنعها، وهو رجل أعمال بريطاني، بعد إدانته بتهم النصب والاحتيال في أبريل الماضي (2013).
وفي محاولة لبث مشاعر الأمن والطمأنينة لدى المواطن العراقي، أطلقت السلطات منطادا يعمل بغاز الهيليوم في وسط بغداد فوق مطار المثنى وذلك لمراقبة حركة المركبات والشوارع عن طريق كاميرات الكترونية مثبته به، تستطيع مسح حوالي 20 كيلومترا وتزويد غرفة التحكم على الأرض بالصور والبيانات، لإمدادها للفرق والدوريات الأمنية المنتشرة في العاصمة، وتعتزم الحكومة إطلاق خمسة مناطيد أمنية أخرى في سماء المدينة.
وعلى الرغم من تلك الإجراءات الأمنية، إلا أن كثيرا من العراقيين يشككون في جدواها. فثمانية من بين عشرة عراقيين تحدثنا معهم في شوارع بغداد، أجمعوا أن تلك الإجراءات التي أستحدثت من أشهر عدة عجزت عن وقف العنف.
تقول ختام، وهي ربة منزل في العقد الرابع،: "الأمر الباعث على الاطمئنان حتى الآن هو أنه ماكو (لا يوجد) تأييد شعبي لتلك الهجمات التي تحمل طابعا طائفيا. نحن العراقيين نكره الطائفية، ولكن نخشى أن استمرارها (الهجمات) قد يجر العراق لمواجهات طائفية دامية من جديد".