هناك قطيعة ملحوظة بين الماضي والحاضر على مساحة الجنوب ،حتى لكأننا اليوم في أرض غير تلك الأرض. كل المزايا التي كان الجنوبيون يفاخرون بها ذهبت أدراج الرياح ،وغدا الحديث عنها وكأنه حديث أسطوري وخيالي لا يمت للحقيقة بصلة. من الحديث عن عدن لؤلؤة الشرق يومها وحاضرته ،وكيف أصبحت اليوم أكثر مدن الكون ، عفونة، وانهيارا شاملا في كل مجالات الحياة. إلى الحديث عن تميز هذه المدينة وتفردها باعتبارها المدينة التي سبقت بلدان الجزيرة والخليج ،فكانت أول مدينة عرفت الكهرباء ،والتلفزيون، وكان من أبنائها أول من نال درجة الدكتوراه في المنطقة، ومنها ظهرت أول محامية وأول صحافية ،وأول مصورة تليفزيونية وغيرها، وكيف أصبحت اليوم في ذيل مدن الجزيرة والخليج على الإطلاق من حيث تردي خدمات الكهرباء والمياه والنظافة والإعلام.
كانت الجنوب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي أول بلد على مستوى الشرق الأوسط يعلن كبلد خال من الأمية، لكنها أصبحت اليوم أشدها ضعفا وتخلفا في مخرجات التعليم ،و بات من سخريات القدر إن تجد في عدن اليوم إن الوالدين البالغين من العمر عتيا يحملان مؤهلات علمية عالية في حين إن الأبناء إما أميون أو لم يكملوا تعليمهم الأساسي.
أشياء عديدة إن مررنا عليها ،سنستشعر الفرق الشاسع بين جيلين في هذا الجزء من الجغرافيا، وكيف تبدلت لدى الناس المفاهيم والقيم، ولعلنا إن حاولنا فقط إن نتخيل كيف كان رجل الجنوب الأول سالم ربيع علي بكل هيبته يستقل سيارته المتواضعة، و يعيش بين البسطاء من الفلاحين والصيادين وعامة الناس، وحين مات مات مديونا للبقالة الواقعة أسفل العمارة التي يسكنها مع عامة الناس، وكيف يتنقل اليوم وحيد رشيد بسيارة مدرعة ويسكن قصرا على الساحل ويملك فللا في أجمل مناطق عدن، وليس هناك من دلائل على سخرية القدر من هذا .
هل نستطيع إن نتخيل معنى كلمة مناضل وأخلاق المناضل في عدنوالجنوب بالأمس والتي لا تعني سوى الفقر والتواضع والاستعداد للتضحية، وكيف هو مفهوم النضال اليوم والذي لا يعني سوى البحث عن المال والمجد والشهرة والمتاجرة بدماء البسطاء ومستقبل الأجيال.
لا شيء في جنوب اليوم ينتمي إلى الزمن الجميل لجنوب الأمس سوى بحرها ومعالمها الشامخة التي لم يستطع عبث الناس إن ينال منها.
وأتصور لو أن من تسببوا في دمار الجنوبوعدن على وجه التحديد، كانوا يمتلكون، قدرة مصادرة بحرها وجمالها ،فإنه ربما لن يكون بمستطاعنا إن نشاهد البحر العربي أو قلعة صيرة، ولربما تحولت كل مساحة الجنوب ،إلى صحراء جرداء تشبه صحراء الربع الخالي إن لم تكن اشد قساوة منها ،لكنه لطف الله حال دون هذا الخراب العظيم.