ما كان لشرارة البوعزيزي التونسية أن تُشعل كل هذه الحرائق داخل تونس وخارجها لولا أمرين، أولهما أنها عابرة للحدود في بعديها التاريخي والرمزي، وثانيهما الهشيم الذي اشتعلت فيه النيران، بعد أن أتى الاستبداد على الأخضر كُله . وإن كانت مصر وتونس قد تبادلتا العدوى في الحراك وما أعقبه من تمرد، بحيث أصبح المشهد أقرب إلى التَّوأمة، فإن ظاهرة التمرد بدأت تتمدد متخطية الحدود، وما أُعلن حتى الآن عبر وسائل التواصل والقنوات الفضائية عن هذه الظاهرة في قطاع غزة ومن قبل في تونس ينبئ بأن الوطن العربي لم يعد يعيش تلك القطيعة القومية التي خصخصت حتى الهوية الأم والألم، فهل عادت العافية إلى المريض العربي بحيث يصدق عليه بالفعل القول: إنه سياق تاريخي وحضاري وثقافي واحد؟ وإن العضو فيه إذا اشتكى أصاب بقية الأعضاء؟
إن أهم ما في هذا الأمر هو أن الوطن العربي كلما استبدت به القطيعة وارتفعت الأسوار البرلينيية بين أقطاره تظهر قواسم مشتركة جديدة لردم الهوة، وهي قواسم ذات جذور وليست طارئة، فقبل سايكس - بيكو لم يكن للخنادق العربية التي تقاتل من أجل الاستقلال أسماء أو صفات عدة، بل هو خندق واحد جاء بالقسام من الشام إلى جنين وبسليمان الحلبي من حلب ليثأر من الجنرال كليبر الذي استباح مصر، وبجول جمال الذي فجر نفسه في البحر افتداء للسويس .
لهذا قبل أن يصبح التمرد عابراً للحدود كان النضال من أجل الاستقلال قد مهّد الطريق وعبّدها، ففي الثورة الجزائرية وإبان ذروة احتدامها كان العرب كلهم جزائريين من المحيط إلى الخليج، مثلما كانوا أيضاً فلسطينيين وسيحملون جميعاً جنسية أي قطر من أقطارهم يتعرض للذبح والانتهاك .
ومن يتصور أن هذه العواطف القومية من رواسب الرومانسية يكون قد وقع في الفخ وهو آخر من يعلم، لأن المرئي على السطح وبالعين المجردة خادع ولا يزيد على الجزء الناتئ من جبل جليد في المحيط .
فالعربي فَقَدَ وخسر أشياء كثيرة بتأثير ثقافة العولمة والتّغْريب والاستلاب لكنه لم يفقد ذاكرته بعد، ومن راهنوا على زهايمر قومي وبائي فوجئوا مراراً بأن الحقيقة عندما يأزف موعدها ليست كذلك . ومصر ليست المثال الوحيد، لكن الاستجابة القومية الفذة لإغاثتها وتسديد دينها ماثلة الآن .
ومفاهيم مثل الثورة والحراك الاجتماعي والتمرد لا تخضع أساساً للجغرفة، لأنها نتاج تاريخي بامتياز، وهي قادرة على أن تنطق بكل اللغات تماماً كما أن الضحك والبكاء لغة كونية لا تحتاج إلى ترجمة .
وقد ينتهي هذا التمرد في تمدده الحيوي إلى تمرد عربي شامل ضد القطيعة وضد كل ما يُعد من طَبْعات سايكس - بيكوية منقحة . *الخليج