الكثير من المفكرين والكتاب عرَّفوا الثورة واسترسلوا بالشروح المنمَّقة بأقلام راقية اللغة وسبك متقن ، وبرغم صحتها لكنَّها لسان مفكر بعيد عن أشعة الشمس والساحات ، بعيد عن الرصاص والموت ، وليست لسان الإنسان البسيط الذي يُقدِّم روحه رخيصة في عالم الثورة . فالبسطاء يُعرِّفون الثورة بأنَّها ليست تغيير نظام حكم أو تغيير سلطة سياسية أوطرد مستعمر ،، بل هي عملية انتقال كامل للمجتمع على كل الصعد -سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية- من سيء إلى حسن .. وهي ليست تمرُّد على كل شيء حتى القيم والأخلاق النبيلة ، بل هي تحرك شعبي نحو القيم الصالحة والأخلاق النبيلة , التي تبني المجتمع وتكفل الحياة الكريمة للإنسان .. فلايعتقد أحد أنَّ تُجَّار المخدرات ومدمنيها إذا انخرطوا في صفوف الثورة أصبحوا ثوَّار بل هم مفسدون في الثورة ،، ولايعتقد الذي تعلم الخمر خلال الثورة وأدمنه أنَّه امتلك الشجاعة التي يحتاجها للعمل الثوري ،، بل هو جبان أولاً وآخراً ، وهو غير مؤمن بقيم الثورة ولذلك خدَّر عقله حتى يتقمص روح الثائر ..
لا يُهمُّ المواطن البسيط ماهو نظام الحكم - ديمقراطي أو ملكي - فدرالي أو مركزي - فما يُهمُّه هو الأمن والعدل والمساواة ،، لايُهمُّه المشاركة في الحكم ، فالذي يُهمُّه المشاركة في ثروات بلاده والحياة الكريمة .. ويمكن تفسير الثورة بقول الشاعر [إذا لم يكن للمرء في دولة الغنا،،،، نصيبٌ تمنَّى زوالها] .. المواطن البسيط لاينطلق من خلفية حداثية تقدمية مستقبلية ، بل ينطلق من واقعه وحاجاته الأساسية الآنية .. ولن يثور إذا تحقق له الأمن والمشاركة بالثروة ، ولن يثور إذا ضمن مستقبل أبنائه بتحقق العدل والمساواة ، وليحكم البلاد ملك أو رئيس ، محبوب أو مكروه ، عربي أو أعجمي ..
ويرى البعض أن الفساد والبطش بالمعارضة السياسية سبب من أسباب الثورة . وهذا غير صحيح ، فمهما يكن حجم الفساد والبطش بالمعارضين لن يثور المواطن البسيط إذا ضمنت له السلطة الفاسدة الأمن ولقمة العيش والعدل والمساواة .. ولو عدنا إلى الماضي وتذكَّرنا حجم الفساد والبذخ والترف والبطش في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد وعهود أبنائه الأمين والمأمون والمعتصم وقارنَّاه مع أي دولة عربية اليوم سنجد الفساد والبطش العباسي أعظم , ولم تقم عليهم ثورات شعبية كما قامت على من بعدهم ، وقد عاصر ذلك الزمان الأئمة العظام –الإمام الشافعي والإمام مالك وابن المبارك والفضيل بن عياض وغيرهم- ولم يفتي أحد بالثورة ضدهم برغم معاناتهم الشخصية منهم لأنَّ الحياة الكريمة كانت مكفولة للشعب ..
ولذلك عندما يُحرِّض المفكرون للثورة مثلاً في دول الخليج باسم الديمقراطية والحرية والتقدميه لايتأثر المواطن في تلك الدول بأقوالهم ، لأنَّ السلطات الحاكمة ضمنت للمواطنين مطلبهم –الحياة الكريمة- ولايعنيهم مطالب المفكر وقناعاته .. وعندما يُثبِّط المفكرون من عزيمة الثوَّار في دول الربيع العربي لايعيرهم اهتمام ولايتأثر بأقوالهم ويستمر بالتضحية والثورة ، لأنَّ السلطات الحاكمة في تلك الدول لم توفر الحد الأدنى من حاجاته ، برغم الحداثة والتقدمية والديمقراطية الموجودة في تلك الدول ..
إنَّنا في العالم العربي نتمنى أن ينطلق المفكر العربي في أفكاره الحداثية من موروثنا العربي والإسلامي وأن يترك الثقافة الغربية ، فالحداثة الغربية انطلقت من ثورة ثقافية على كهنوت الكنيسة ونحن في بلاد المسلمين لم نتعرض لتسلط كهنوتي اقصى العقل من الحياة .. ولو أنَّهم فعلوا ذلك لفهموا المواطن البسيط وخاطبوه بمايفهمه واستطاعوا التأثير فيه ..
ولقد أدركت بعض الأنظمة العربية حاجة المواطن التي بدونها يثور عليها قبل إن يدركها المواطن نفسه ، فوفَّرتها منذ الأمس وضمنتها لمدى معين ، ولذلك لم يثور عليها بثورة أصيلة أو ثورة مقلَّدة .. أي أنَّ إدراك تلك الأنظمة سبق إدراك المواطن بخطوة .. وإذا حافظت على تقدمها الإدراكي لحاجات المواطن المتطورة بتطور الحياة فلن يثور عليها إلى ماشاء الله ..