أكد مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، طوم دونيلون، في سياق حديثه خلال مؤتمر «الاتجاهات التحولية 2014» الذي استضافته مجلة «فورين بوليسي» الأسبوع الماضي، أن الولاياتالمتحدة تسعى إلى إيجاد «توازن أمني جديد» في الشرق الأوسط. يشكل كلام دونيلون تأكيدا لما كتبناه في هذه المساحة قبل بضعة أسابيع حول توجه إدارة أوباما لإيجاد منظومة أمنية جديدة في المنطقة تتضمن إيران. ويبدو جليا الآن أن الرئيس باراك أوباما، بتصميمه على استخلاص أميركا من المنطقة، يقلب المنظومة الأميركية القائمة منذ عقود في الشرق الأوسط. طوال الحرب الباردة، رأت الولاياتالمتحدة نفسها قائدة تحالف بالمنطقة في مواجهة الدول الثورية الدائرة في مدار الاتحاد السوفياتي. لم تكن السياسة الأميركية آنذاك موجهة للتعايش مع النفوذ السوفياتي، بل كانت موجهة لدحره. كما فسر وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر: «كانت الأولوية إخراج السوفيات من الشرق الأوسط». أتت الثورة الخمينية في إيران لتضيف لاعبا تغييريا، هدفه تقويض المنظومة الأميركية وحلفائها. قدمت إيران الثورية نفسها قائدا لمنظومة بديلة، وأنشأت شبكة تحالفاتها – ما يسمى اليوم «محور المقاومة». وعمل هذا المحور، بتمويل وتدريب وتسليح من إيران، على تقويض حلفاء أميركا العرب، وعلى محاربة إسرائيل. وبقيت الولاياتالمتحدة ترى نفسها، وينظر إليها، على أنها قائدة حلف دول الستاتيكو المحافظة في مواجهة محور إيران التغييري (revistionist). كل هذا أصبح من الماضي. تحت أوباما، انتهى هذا النموذج. أولا، لا يبدو أوباما معنيا بصيانة التحالفات. مثلا، أبقى البيت الأبيض حلفاءه في الظلام حول مفاوضاته السرية مع طهران على مدى سنة. لا، بل سعى لمحاصرتهم ليحد من قدرتهم على المناورة ريثما يفاوض. وأيضا على سبيل المثال، هناك الوضع في سوريا. فعوضا عن قيادة الحلف الإقليمي لدحر المحور الإيراني، صرف أوباما نظره عن قلق حلفائه وأسقط مرارا مناشداتهم التدخل. الآن، نفهم أن ذلك لم يكن مجرد صيانة سيئة للتحالفات. لا، بل كل قرارات أوباما في سوريا في العامين الماضيين كانت موجهة نحو إنجاز اتفاق مع طهران. وكما أكد دونيلون، فإن أوباما يتبع رؤية محددة ألا وهي إيجاد منظومة إقليمية جديدة. ويجري تسويق هذه التركيبة على أنها سترسو على بنية متوازنة تضم كل أصحاب المصلحة، ضمنهم إيران، ومن ثم ستساهم في استقرار المنطقة. وهكذا، يستطيع أوباما الابتعاد عن الشرق الأوسط. طبعا، هذه الصورة الوردية لن تحمل أي شبه لحقيقة الأمور وكيفية تجليها في الواقع. هذا لأن أوباما يتبع مسارا يتناقض جذريا مع السياسة التاريخية لأميركا. ففي حين كانت واشنطن في السابق تقود تحالف الدول المحافظة ضد قوى المراجعة، يقوم أوباما اليوم بفرض الدولة المراجعة الأبرز، إيران، على حلفاء أميركا. ومن السخف، الظن أن مثل هذه التركيبة ستخلق توازنا أو أن واشنطن ستظل على مسافة واحدة من الطرفين. فكما هو واضح في سوريا وفي التعاطي مع الشركاء أثناء أشهر التفاوض قبل اتفاقية جنيف، الأرجح أن أوباما سيعلي مصالح إيران فوق مصالح حلفاء أميركا القدامى. ولهذا أسباب كثيرة. فقد رفع أوباما سقف التوقعات لتقارب تاريخي مع طهران، مما جعله رهينة للصفقة مع إيران. وكما رأينا، فقد قدم أوباما تنازلات، ليس فقط في الملف النووي، بل أيضا في ميزان القوى الإقليمي في سوريا تحديدا. ويبني أوباما موقفه على نظرية أن إيران يمكن أن تعود إلى مصف المجتمع الدولي عبر الإغراءات لكي تخفف من طموحاتها الثورية. من نافل القول، إن رؤية إيران لا تمت بأي صلة لرؤية أوباما. فلا تنظر طهران لنفسها على أنها شريكة واشنطن، بل على أنها البديل عنها. ومن هنا، ستتماشى طهران بشكل انتهازي مع واشنطن وستستفيد من الشرعية التي تضفيها عليها أميركا لكي تقوض خصومها الإقليميين، غير عابئة بخطاب أوباما عن أن هذا ليس مشروعا محصلته صفر (zero – sum endeavor). ومن الطبيعي أيضا أن يعارض حلفاء أميركا محاولتها فرض معادلة جديدة تقوض مصالحهم وتزيد من نفوذ إيران، وتاليا مهددة أمنهم القومي. مما سيدفع أوباما للانحياز إلى طهران، مزيدا الضغط على حلفائه ليحمي اتفاقه مع إيران. كما وضح الباحث مايك دوران، هذه السياسة تؤدي إلى خلاصة أن واشنطن «قد فقدت أي مفهوم لغاية مشتركة سوى مع إيران». ويحتاج أوباما لهذا الاتفاق مع الإيرانيين لكي يتمكن من تطبيق مسعاه الأساسي في المنطقة، ألا وهو الانسحاب منها. فكما قال دونيلون نفسه في السابق، فإن أوباما، ومنذ الأيام الأولى لرئاسته، طرح رؤية لعلاقة أميركا مع الشرق الأوسط مبنية على خفض منسوب ما سماه «فائض الاستثمار» الأميركي في المنطقة. عند خروجهم من الخليج في أواخر الستينات، سعى البريطانيون لترك توازن في الإقليم مبني على موازنة ما سمي الدعامتين التوأمين، السعودية وإيران. إنما الفرق هو أن إيران وقتها كانت على الأقل حليفا ضمن منظومة القوى المحافظة ضد القوى الثورية المتحالفة مع السوفيات. اليوم، يسعى أوباما لشراكة استراتيجية مع لاعب تغييري (revisionist) لم يتخل عن طموحاته في مراجعة النظام الإقليمي، حيث يسعى لفرض نفسه بديلا عن أميركا كقوة مهيمنة كبرى. وهكذا، تمثل سياسة أوباما شرخا جذريا مع السياسة التاريخية لأميركا.