اللواء بارجاش: مخطط حوثي لاستهداف حضرموت عبر خلايا محلية وسنواجه بحزم    الشيخ الجفري يزور أبو الشهداء والد الشهيد عبداللطيف السيد    البنك المركزي يسحب تراخيص منشأتين للصرافة ويغلق فروعهما    هناك اعلاميين رخيصين من الجنوبيين لمجموعة هايل سعيد    المشروع الأميركي – السعودي: نزع الشرعية عن المقاومة تمهيداً لفتنة داخلية!    الرئيس المشاط يعزي آل القاضي وعزلة سهمان في الطيال    الوزير باجعاله يؤكد أهمية حصول ذوي الإعاقة على كامل حقوقهم    محافظ عدن يقر رفع حافز المعلمين إلى 50 ألف    تعز.. اختتام دورة الرخصة الآسيوية (C) لمدربي كرة القدم    اتهامات لمليشيا الحوثي بخطف نجل نائب رئيس مجلس النواب السابق في صنعاء    المجلس النرويجي للاجئين: "إسرائيل" تخرق القانون الدولي في غزة يوميًا    اليونيسيف: 28 طفلاً يقتلون يومياً في قطاع غزة    النفط يتراجع وسط تصاعد المخاوف من فائض المعروض    حملة رقابية لضبط أسعار الأدوية في المنصورة بالعاصمة عدن    الحديدة: تدشين المرحلة 2 من مشروع إعادة تأهيل وبناء المنازل للمتضررين من السيول    لجنة الموارد تشيد بتحركات الحكومة لدعم العملة وتثمن دور وزارة الصناعة في مراقبة الأسواق    أي إصلاحات وحماية للعملة الوطنية وقطاع الاتصالات يسلم لشركة أجنبية    رسميا.. (ستارلينك) تدشن خدمتها من العاصمة عدن    هيروشيما: الجرح الذي لم يندمل    قرعة آسيوية ساخنة بانتظار ناشئي اليمن في كوالالمبور الخميس المقبل    وزارة الزراعة تناقش استعدادات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف    وزير الشباب ومحافظ ذمار يتفقدان مدرسة الثلايا ومكتبة البردوني    فعالية احتفالية بذكرى المولد النبوي بذمار    متوسط أسعار الذهب في صنعاء وعدن الثلاثاء 5 أغسطس/آب 2025    المملكة تطلق 5 مشاريع إغاثية وتعليمية في اليمن ولبنان تخدم أكثر من 57 ألف مستفيد طج    شهادات مروعة عن تعذيب وانتهاكات داخل معتقلات الأمن السياسي بمأرب    إصابات إثر تصادم باصين للنقل الجماعي بمحافظة حضرموت    الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تشيد بالعملية اليمنية التي استهدفت مطار (اللد)    دولة هائل سعيد انعم.. نهبت الأرض والثروة ومعاقبتها مطلب شعبي    جراء الهجمات الحوثية.. "ميرسك" ترفع رسوم الشحن في البحر الأحمر    مليشيا الحوثي تختطف ثلاثة معلمين بينهم مدير مدرسة في إب    جريمة مروعة.. مواطن يقتل 4 من عائلة زوجته في إب ويصيب آخرين ويلوذ بالفرار    أيادي العسكر القذرة تطال سينما بلقيس بالهدم ليلا (صور)    النائحات المستأجرات    عدن.. البنك المركزي يحدّد سقف الحوالات الخارجية للأغراض الشخصية المُرسَلة عبر شركات الصرافة    شوقي هائل سعيد انعم يقتل الشعب ويشرب دمائهم لحصد المليارات    أصحيح هذا.. قائد عسكري كبير يسخر طقم مسلح لحماية مطعم متمرد على الأسعار    إب.. جريمة قتل مروعة أسفرت عن سقوط سبعة ضحايا    نيمار يوجه رسالة إلى أنشيلوتي بعد ثنائيته في الدوري البرازيلي    مودريتش: بطولات الريال لم تخمد حماسي    «سيدات النصر» .. لياقة وسرعات    ( ليلة أم مجدي وصاروخ فلسطين 2 مرعب اليهود )    توجيه الرئيس الزُبيدي بتكريم أوائل الثانوية.. تقدير واحتفاء جنوبي بالعلم والتفوق    الحكومة تجدد تأكيدها: الحوثيون حوّلوا المساعدات الدولية إلى أداة تمويل لحربهم    غدا الثلاثاء .. انطلاق المعسكر الإعدادي لمنتخب الناشئين    الحديدة: فريق طبي يقوم بعمل معجزة لاعادة جمجمة تهشمت للحياة .. صور    رئيس الوزراء: الأدوية ليست رفاهية.. ووجهنا بتخفيض الأسعار وتعزيز الرقابة    تضهر على كتفك اعراض صامته..... اخطر انواع السرطان    إنتر ميامي يعلن غياب ميسي لأجل غير مسمى    حضرموت التاريخ إلى الوراء    سلطة التكنولوجيا هي الاولى    تعز تتهيأ مبكرا للتحضير للمولد النبوي الشريف    رجل الدكان 10.. فضلًا؛ أعد لي طفولتي!!    توظيف الخطاب الديني.. وفقه الواقع..!!    الراحل عبده درويش.. قلم الثقافة يترجل    مرض الفشل الكلوي (15)    من أين لك هذا المال؟!    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النَّبيّ مُحمّد في شّعر الرّواد الرّوس
نشر في عدن الغد يوم 21 - 01 - 2014

من العسير على الباحث إحصاء وتمحيص القصائد الروسية التي تحاكي آيات الله وسيرة نبيّه الكريم وما هو على صلة بشعائر الدين الإسلامي الحنيف، والنفاذ إلى عمقها الروحاني وترتيب صورها المتداخلة وعباراتها المميزة، وما تضمه من دلالات شتى يندمج الفيض المعرفي فيها بالمزاج الوجداني. ولعل ما يميز تلك القصائد، ذات الأثر المبين في رؤى وأحاسيس الشعراء الروس وصيغهم البلاغية بل وفي الذائقة الموسيقية وجماليات التصوير، هو رهافة وثراء الاقتباسات المباشرة من القُرآن الكريم ومناقب النَّبيِّ مُحَمّد (صلى الله عليه وسلم)، مستقاة من تراجم وشروح روسية مبكرة، وضعها دبلوماسيون ومستشرقون، في القرنين الثامن عشر- التاسع عشر، منهم؛ فيريوفكين، كولماكوف، كاظم بيك، نيكولاييف، بوغوسلافسكي وسابليكوف.

تفصح قصائد نوابغ الشعراء الروس عن انجذاب إلى الإسلام، واحتفاء بشخصية النّبيِّ محمد (صلى الله عليه وسلم) وأقداس المسلمين، أو جاءت على ذكرهما في سياق أبياتها المقتبسة من كلام الله، الذي مال إليه أولئك الشعراء وشغفوا به، ما أضفى على قصائدهم بهاءً وفتنةً. ويومها عُدت، وسط أدباء روسيا، فتحاً مبيناً في استنطاق النص القرآني شعرياً، واستبطان أسراره وإيقاظ الدهشة به وبثه منزهاً في دلالته الروحية والمعرفية. هذا ما نقرأه في مناجاة الشعراء وتأملاتهم وانشراحهم بعقيدة القُرآن الكريم، لذا نراهم يستهلون قصائدهم الروحانية بآيات قُرآنية أو يُضمنون أبياتهم الشعرية قبساً منها.

إما لأغراض الابتهال والتوسل إلى الغفور الرحيم كي (يجنبهم طريق الماكرين)، ويهديهم الصّراط المستقيم، و(يسلط عليهم نوره)، (ليمسحوا بالتوبة ذنوبهم)، بل يدعون إلى الصلاة؛ (صَلِّ ما أن يمر اللّيل/وأذكر اسم الرَّبّ الله)، (ليفوزوا بجنات تحفها ورود زاهية)، وفي هذا إيمان وأمل وتبشير، أو للارتقاء بعقيدتهم الإيمانية وتصورهم عن الخلق والوجود والحياة والفردوس والجحيم (الله، الله، الله/هو رَّبُّ المشرق والمغرب، /أمامهُ تتوهج الظلمة)، وتعظيم دلالتها ومغزاها لإضفاء فتنة ونغم على أخيلة القصيدة (وإذ قال؛'شعاري رهيبٌ/هو- سِر الأسرارِ:ألف، لام، ميم') الشغوفة بالهام العقل واستفزاز العاطفة.

ونلحظ أن رواد الشعر الروسي استأنسوا بقيم وعبر كتاب الله السميح وقصص الأنبياء والأقوام، التي تعرفوا عليها من ترجمات فرنسية وروسية لمعاني القرآن الكريم وتفاسيره، التي مدت قريحة الشعراء ومخيلتهم بزاد الشعر اللذيذ. الأمر الذي سطع في قصائدهم المستقاة من قبس القُرآن الكريم؛ (في المغارة السِّرية/في يوم العسف/ قرأت القرآن العذب/فجأة هبط ملاك السّلوان/حاملاً لي طلسمان/ قوته الغيبية كلمات مقدسة/خطتها عليه يدٌ خفية).

(من وحي القُرآن):

وحتى ندرك أهمية وبهاء تلك الأشعار يكفي أن نعود إلى قصائد بوشكين (من وحي القُرآن) و(المغارة السرية) و(النّبيّ)، التي اجتهدنا في ترجمة نصوصها الروسية إلى العربية، والمتضمنة قبس من كلام الله، الذي قرأه بوشكين بإمعان في ترجمتين لمعاني القُرآن الكريم باللغتين الروسية (لميخائيل فيريوفكين) والفرنسية (لأندريه دو روييه)، ولعله اطلع أيضاً على قصائد (الديوان الشرقي) للأديب الألماني يوهان جوته، الذي سبق الأدباء الروس في اقتباساته من القرآن الكريم والمعلقات العربية وقصائد الشعراء المسلمين عامة والشعر الصوفي بخاصة.

ومن ترجمة فيريوفكين اقتبس الشاعر بوشكين آيات كريمة من سور؛ (البقرة والكهف ومريم وطه والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والنجم والواقعة ونوح والمُزمّل والُمُدثّر والقيامة وعبس والتكوير والفجر والبلد والضُحى). واستعار قصصاً ومواعظً هاديةً وعِبراً حكيمةً وثقت تمسكهَ بالفكر الإيماني النَّير السّميح. وواضح أن بوشكين استأنس بالمحاجات بين الأنبياء والمشركين (محاجات نمرود بن كنعان الجبار مع سيدنا إبراهيم (عليه السلام))، وانشرح برُشد القلوب التي لا تزوغ وعلم ذوي الألباب المُبين ومعجزة (لا إكراه في الدين) والصبر على بلايا الضَّالين.

وفي ملحمة (من وحي القُرآن)، الدافقة بالوجد والإيمان، وذات الإيقاع المميز والبناء الشعري المتباين، تتجسد بلاغة بوشكين التعبيرية وموهبته البارعة. وما برحت ظلال كتابنا الحكيم الوارفة، تبسط بصائر الهدى والإيمان على أبياتها، ما جعل معاصري وأتباع بوشكين ينظرون إلى ميراث الإسلام الثقافي والروحي كينبوع معرفي متدفق يصب في روافد ورواق الثقافات والعلوم الإنسانية الحديثة، رغم محاولات بعض المستشرقين واللاهوتيين المتزمتين تجاهل وتغييب معالم تلك الثقافات والآداب الإسلامية الخلاقة وطمسها في دهاليز الظلام بعيداً عن فكر ومجالس العامة!.

ألستُ أَنا الذي سَقاك
في يومِ الظمأ من ماءِ الصحراءِ؟
أَلََسْتُ أنا الَّذي وَهبَ لِسانكَ
سُلطاناً قديراً على الألبابِ؟.
بمروءةٍ ازدري الباطلَ
واسلك بثقةٍ صراطَ الحقِ
وأحببْ اليتامى، وبلغ قُرآني
المخلوقاتَ المرتعشةَ.
من هذا كله يتبين أن خطاب القُرآن الكريم بدا جلياً في تعبيرات الأديب بوشكين الشعرية وتأملاته في الوجود والفناء، المفعمة بالهواجس والأخيلة المدهشة والقيم الروحانية والوجدانية ذات النزوع الإنساني المتسامح والمنفتح على ثقافات الأقوام والأديان. وغدا النص القُرآني مصدر إلهام-معرفي، فاعل وممتد في أبعاده العقائدية-الأخلاقية. اختاره الأديب بوشكين لإثراء موهبته وخطابه وموضوعاته الوجدانية والفكرية المليئة بسمو الرؤى والفياضة بالسحر والجمال، وبث المزيد من الإيمان الواعي بين عباد الله المتطلعين إلى معرفة العالمين، الفاني والخالد، والخشوع التقي لإرادة الخالق مالك السماوات والأرض وما بينهما.

وكما هو الحال في إبداع الكسندر بوشكين لامس قبس القرآن الكريم فكر وقناعات وخطاب كبار أدباء روسيا من معاصري وأتباع المفكر بوشكين وفتن مخيلتهم الشعرية والنثرية وعمق رؤيتهم وتأملاتهم في التقوى والإيمان وجمال الفضيلة والخير والشر والقضاء والقدر وعلاقتهما بأفعال البشر. ويبدو أن هؤلاء الأُدباء أدركوا حقبة بحثهم في الآداب الشرقية عما يخصب الأدب الروسي ويثري فكره وفنونه، أن القُرآن الكريم ملآن بالإيمان الحق والتأمل اللذين (يهديان للَّتي هي أقوم)، وعقيدته عقلانية تدعو إلى الرحمة والحكمة والعدل والتسامح (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالَّتي هي أحسن إلا الَّذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالَّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون)، وتبشر بمكارم الخلاق (إنَّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق).

ويضم (القُرآن) كنوزاً رائعة من سفر الأقوام والأديان القديمة، ويكتنز قيماً روحانية تنبذ التَّكبر والغلو العرقي والتزمت الديني (إنّما المؤمنون أخوة) و(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) والتعصب القومي (لا فضل لعربي على أعجمي إِلا بالتقوى)، وذات صّلة بانتمائهم الروحي، يمكن في حال مزجها بأفكارهم ومعتقداتهم وتعاليمهم الدينية وقيمهم الاجتماعية وميراثهم الشعبي أن تثري، في صورة بالغة القوة، هويتهم الثقافية ومشروعاتهم وأمنياتهم الأدبية والفلسفية-الروحانية في ظل النهوض العارم للعلوم والفنون الشعرية والنثرية والفلسفية الذي كانت تشهده روسيا في القرن التاسع عشر.

(نصيرُ مُحمّد):

ويكمن المغزى العميق لقصيدة الشاعر الصوفي الكسندر شيشكوف (1799-1832)، خليل بوشكين، في بحثها عن النجاة (في الساعة المقررة) من خطايا وآثام الحياة ومغرياتها الجمّة، على يدِ الغيب الكريمةِ. وصراحة استمد الشاعر مادتها وأفكارها ومشاهدها التعبيرية، التي لا تخلو من ومضات صوفية، من عناء وكرب حاج مسلم شد الرَّحال (في صيف قائظ) إلى بيت الله الحرام و(على الرمال المتوهجة) راح يقطع بشقاء المسافات العكرة الطويلة و(مكة المكرمة بعيدة)!عله يبلغ مرامه، ولو بمشقة ليُهديه لغاية جليلة. وفي القصيدة ظهور واضح لشخصية الشاعر وإلمامه بسبيل النجاة وتصوره عن المغزى العميق لحياة ورسالة وسعي المسلم الصالح في الدنيا ليكسب الآخرة، وفيها يبدو الحاج (نصير مُحمّد) مطمئناً من الوصول إلى (الحرم البعيد) للسجود بين يدي الله سبحانه وتعالى. ونلمس في القصيدة إيماناً عميقاً يوائم بين الشعر وشقاء التقي المقتنع بالرضاء النفسي؛
في الجزيرة العربية،
تحت قيظ الصيف ،
وَوسط التّعب والظمأ والكرب،
يشقى نصيرُ مُحَمَّد
على الرِّمال المتوهجة،
ومكةَ المكرمةُ بعيدةٌ .
(اللّه كريم !)
ويمكن القول أنَّ هذه المقتبسات استثمرت بحيوية في روائع الشعر والنثر الروسي الحديث، وقدمت لقارئ الروسية مؤشرات دالة على تعدد وتنوع روافد المؤثرات الإسلامية في النتاج السردي والشعري الروسي، الملحمي والغنائي، حتى غدت على مدى قرن من الزمان تقليداً باذخاً، بل يعده البعض تياراً رفيعاً، في الشعر الكلاسيكي الروسي، ولم ينأ عن تأثيراته إبداع الشعراء المعاصرين. لما لها من دلالات حسية تعبيرية مشحونة بالرؤى والمشاهد والوجوه التي أثّرت في الذات البشرية ووعيها المتداول. ومن موئل هذا الخطاب، العربي والإسلامي، البليغ وإرثه النفيس المدون والمروي والمشيد صاغ الشعراء في نصوصهم مداركهم وتصوراتهم الجديدة.

أجل من هذا الإرث ذي الخصوصية التعبيرية الموحية بإنس وجلالة القيم الإنسانية المنشودة، استقت مئات القصائد الروسية، بشغفِ ووعي ورهافةِ المُدرك مادتها الخصبة. ما يؤشر لبروز نصوص شعرية جديدة ومتنوعة جمعها موضوع متشابه بل ومتماثل هو؛تضمين قصائد الشعراء الروس آيات قُرآنية ومشاهد من سيرة الرّسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وما هو موحي وممتع من القيم الوجدانية والثقافية الموروثة. ولنا في (أُغنية الدرويش) للشاعر أندريه مورافيوف (1806-1874) نموذج يظهر نصيّة الاقتباس. بل أن الشاعر استعار حرفياً عبارة (الله كريم) وأوردها بلفظها العربي في نهاية كل مقطع شعري من قصيدته، ولا ندري أين سمع مورافيوف عبارة المسلمين الأكثر شيوعاً هل على أرض فلسطين أم في بلاد النيل اللتين زارهما في رحلة طويلة عام (1829)؟. فعلاوة على انتفاعه من بعدها (الله كريم) الديني استثمرها أيضاً لأغراض الإيقاع والقافية؛
ولِّيَّ وجهكَ شطر الكعبة
صَلِّ وكن متأهباً ! من يعلم،
ما الذي أخفاه لك القضاء والقدر؟
سعيد، من يلاقي مصيره بجرأةٍ!
الله كريم ! الله كريم!

كما واتسمت اقتباسات معاصري الكسندر بوشكين وأتباعه الشعراء الروس، من القُرآن الكريم والسِّيرة النَّبويَّة بسعة وكثافة الاستعارات والرؤى الدينية والثقافية الفسيحة. وساهم احتكاك الشعراء بحياة المسلمين وثقافتهم في إثراء دائرة معارفهم وتصوراتهم عن الإسلام ونبيه الكريم بل ونظرتهم إلى العالم في بعديه الديني والدنيوي وجعلها أكثر سعةً وتنوعاً. وشيئاً من هذا القبس نجده في قصيدة (ترس أوليغ)، التي يتوجه فيها الشاعر فيودور تيوتتشييف (1803-1873) بالدعاء إلى الله تعالى (نور الأنوار) كي يسلط عليه نوره في ليل اسطنبول. (يا لله!سلط علينا نورك!/ أنت بهاء وأزر المؤمنين/وهول على الكافرين المُنافقين، ومُحمّد نبيك). ونلمس في تضرعات الشاعر تيوتتشييف نفس الابتهالات والتوسلات التي يستهل بها المسلم التَّقي دعاءه، إحساساً بضعف الإنسان وعجزه عن مواجهة المصائب والبلايا، فتراه، وبلهفة وتوق روحه القلقة الحائرة، يتوجه إلى اللّه الرحمن الرحيم طالباً العون والإرشاد والمغفرة.

(من القُرآن):
ويظل سر انجذاب الشعراء الرّوس وتوجههم إلى كلام الله يكمن في الإعجاب بالمزايا الجمالية الفذة لخطاب القرآن ومحتواه الروحاني والفلسفي وما يكنزه من حكم وسير وعبر حفزتهم على إثراء قصائدهم بمواضيع ومشاهد جديدة تم اقتباسها من القُرآن الكريم. لذا أنفذوا بصيرتهم في معاني السّور والتزموا الحرص على تأكيد مدلولها وإدراك بُعديها الديني والاجتماعي، واجتهدوا في صياغة فكرة وفضاء القصيدة بما ينسجم مع مغزى ومراد الآيات الكريمة وغرس الإحساس بجلالة قيمها وعبرها في نفوس القراء. فها هو ذا الشاعر الرومانسي لوقيان ياكوبوفيتش (1805-1839) يبدأ قصيدته؛ (من القُرآن)-وفيها تقليد لقصيدة بوشكين (من وحي القرآن)- يقسم بالشمس والقمر كما جاء في (سُورةِ الشَّمسِ)؛ (والشَّمسِ وَضُحاها* والقَمَرِ إذَا تَلَهَا* والنَّهارِ إذَا جَلَّهَا* والَّيْلِ إذَا يَغْشَهَا* والسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا* والأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا*. . ). ويختمها بآيات من سور هود؛(64-68) والأعراف؛(73-78 ) والحاقَّة (3-9). .

وفي قصائد إيفان بونين، التي نظمها في روسيا وفي منفاه بباريس وخلال رحلاته الكثيرة إلى البلدان العربية والإسلامية، والمفعمة بالتقوى والخشوع، نعثر على اقتباسات كثيرة من القُرآن الكريم ذات صلة بشعائر الإسلام وسيرة رسوله المصطفى وقصص الأنبياء والصالحين. ونقرأ نوعاً من التعاطف الباطني العميق مع الإسلام ونبيه يقترب أحياناً من الانحياز والمديح والتَّمجيد. هذه الاقتباسات أثْرت نصوص بونين الشعرية والنثرية وأضفت على موضوعاتها ومفرداتها ومعانيها جزالةً وحكمةً وبهاءً وطعّمتها بتوليفات روحانية-إيمانية ظلت تلازم أشعار بونين المتأخرة. ومن تلك القصائد البهية التي تعبر عن روح تزهو بوهج الفكر النَّير وبحرارة الحياة التقية التي لا تصرف هباءً؛ (محمد في المنفى)، (لخيانتهم)، (السِّر)، (لله قال الشيطان)، (السَّراب)، (محمد وصفية)، (السُّنة)، (إبراهيم)، (التمجيد)، (علامات السَّبيل)، (حجر الكعبة الأسود)، (الحاج)، (الحجاب) (المسكين). ، نستشف بأن الشاعر بونين مال واستظل بهدى قبس القرآن، الذي ألمَّ به إلماماً طيباً، وأستقى من كلام الله تعالى تجليات ومناقب من السيرة النبوية الشريفة. وهذا ما نجده في أبيات قصيدة (محمد في المنفى)، التي تُذكرنا بسورة الشَّرح التي تروي مشهداً من سيرة الرسول الكريم (أَلَم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ*)؛

فَوقَ البيداءِ في الصَريمِ،
أرواحٌ حامت، على وادٍ حجري.
وبكَرَبٍ دَوَت كلماتهُ
كنبعِ إلهٍ مَنسي
حافياً، فوقَ الرِمالِ،
مَكشوف الصِدرِ، جَلَسَ ،
وٍبشجوٍ قال:
‘ مخلصٌ للبيداءِ أنا وللقفارِ،
مُبعدٌ ، أنا، عن كُل مَن أُحبُ'.
فقالت الأرواحُ :
‘ لا يُلِقَ بالنَّبي أن يكونَ
ضعيفاً وعياناً'.
فردَ النَّبيُ بشجَن ٍواطمئنانٍ:
‘ للصخرِ شكوتَ أمري أنا'.

من هذا الشعر الروحاني البهي، الذي لا يخلو من نفحات صوفية، نعرف أن قصائد الشعراء الروس المتأثرة بعقيدة ومُثل القرآن الكريم وسيرة نبيّنا مُحمّد (صلى الله عليه وسلم)، ضمتْ آيات مجيدة اكتنزت وقائع تاريخية خالدة ومواعظ فذة وعبر حميدة وسير كريمة لرسل الله وأنبيائه، تم إخراجها بأسلوب شعري وجدي بهي ولغة محكمة صافية، تنساب في رهافة وتدفق يلازمها إيقاع متناسق ونغم شجي، حافظ فيه الشعراء الروس على روح كتاب الله ورسالته الإيمانية التقية، والمزايا الجمالية الفذة لخطاب القرآن ومده الروحاني والفلسفي، ومكارم ومناقب النَّبيّ المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، الأمر الذي حفزتهم على إثراء قصائدهم بهذا القبس الإلهي.

والتزموا الحرص على تأكيد بعده وإدراك مزاياه الدينية والاجتماعية، واجتهدوا في صياغة فكرة وفضاء القصيدة بما ينسجم مع مغزى ومراد الآيات الكريمة وغرس الإحساس بجلالة قيمها وعبرها في نفوس القراء. ولم يفتهم أن ينذروا كُلَّ مَنْ ضَلَّ عن صراط الحق ويبشروا بقيم القرآن الرَّحيمة والعادلة (ولا تَلبَِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتَكتُمُوا الحَقَّ وانتُم تَعلمُونَ)، المُسندة إلى إيمان العَالِم وأخلاق التَّقي وحُكم العادل وسماحة الحاكم وشكيمة المُحق .



* ناظم مجيد حمود
باحث وأُستاذ جامعي / روسيا
hazimmaj@yahoo. com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.