مفهوم الرواية الرواية في نوعيها: القصير والطويل، هي في معظم الاحيان، كتابة نثرية تصف شخصيات واحداثا خيالية، لها جذور تاريخية، في سياق قصصي متسلسل. عند القيام بمراجعة رواية ما، واجراء تحليل بحثي وقيمي لها، لا بدّ من دراسة التشكّل القصصي، اي العقدة، وعلاقتها بالواقع، وميزاتها، وكيفية الاستعمال اللغوي فيها. أُدخلت جميع هذه الشروط على النثر الادبي في القرنين السادس عشر والسابع عشر من أجل اعطائه التبرير الخيالي والتصوّري، بعيدا من الواقعية التاريخية. ان هذا التوصيف للرواية، هو اقتباس لتعريفها في كتب الادب الانغلوسكسوني الغربي الاكاديمية. وحيث ان كتّاب الرواية العربية الحديثة، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، قد اطّلعوا على الرواية الغربية، خاصة الانكليزية، بفضل الارساليات التربوية التبشيرية الغربية التي تلقوا علومهم فيها، علينا ان نلتزم هذا التوصيف الغربي، مع الاخذ بعين الاعتبار، التداخل الثقافي والاخلاقي والسياسي العقائدي والديني عند كل روائي عربي، عند تقييم أَعماله الروائية، بصورة عامة.
وبمناسبة مئوية ولادة الاديب العربي المناضل، رئيف نجم الخوري، تحرّكت في دواخلي جذور القربى الوطيدة، التي تربطني به من جهة والدتي، السيدة بديعه نخلة الخوري، وكذلك الحنين الى الايام البعيدة التي سكبت في ذاكرتي البعيدة صورا جميلة عن الوجه الباسم الذي كان يتحلّى به اديبنا الكبير- مع الكبير والصغير في السن – من ابناء قرية نابية التي هي مسقط رأسه، وعاد اليها في أواخر عمره القصير.
شخصيات الرواية الرئيسيّة:
لا أدّعي أنّني قرأت جميع أعماله، بل اخترت روايته اليتيمة – على ما أظن، ‘الحب أقوى'، لانني من هواة مطالعة الروايات الانكليزية، بفضل تحصيلي العلمي باللغة الانكليزية، وكذلك قراءتي لبعض الروايات المأسوية الروسية المعرّبة لفيودور ميخائيلوفتش دوستويفسكي. آمل أن أفي ابن قريتي، المفكر الثوري الجريء،بعض حقّه، وان تكون عندي الجرأة والقدرة على التحليل الموضوعي السليم لهذا العطاء الروائي القيّم تدور أحداث الرواية حول شخصيتين رئيسيتين، نصر وسعاد، وهما عاشقان متيّمان وابنا عم، من قبيلة بني عذرة. و'اذا قيل بنو عذرة قيل الحب النقي الوفي الخالد والشعر الهيمان الرقيق الواجد، وإلّا لَما قيل بنو عذرة'.
يعيشان في بيئة بدوية فقيرة. نصر، لا أهل له ويرعى قطيعا هزيلا لعمّه. وسعاد لها أب ساذج بسيط، وأم متربّصة تطمح لاستغلال جمال وسحر ابنتها للتخلّص من شظف العيش والفقر المدقع. تبدأ معاناة العاشقين عند بلوغ سعاد أُنوثتها وإبعادها القسري عن الرَّعي مع نصر. عند هذا الاستحقاق شعرت سعاد لاوّل مرّة وشاهدت نصر ‘ بعين الانثى، واستغربت أن تجد في سيمائه … العذوبة والانوثة'. ام سعاد تريد تزويجها فاتكا الذي طلّق زوجته الاولى وهو ‘موفور المال، عالي النسب، مرموق الشباب … ‘، وليس مثل نصر الذي هو ‘الصُّعلوك المنتوف'، وليس الطفل ‘الذي حليب أُمّه على شفتيه..'.، و'قفص من عظام في كيس من جلد شُدًّ عليه شدّأ..'.. بداية، يقضي نصر على غريمه الصلف فاتك خلال حراسة الاخير لخيمة الوالي ليلا، بسهم قاتل، لكن يدخل على المشهد الدرامي منافس آخر، ذو شأن كبير،هو الوالي الذي نصب خيامه قرب الغدير. انه الوالي الذي ‘ يمشّط لحيته بمشط غليظ الاسنان من أصابعه، أو يدلّك بيده وجهه السمين واللحم المترهّل تحت ذقنه، والى جانبه سيف عار من غمده يتناوله ساعة يشاء'.، ويريد الزواج بسعاد التي تلبس ‘جلبابها الخشن الطويل'، وذات'القالب البديع من لحم فتيّ ودم حارّ ..'.، ووجه ‘أُشرب من سمرة الشمس الصحراوية، لم يستره لثام ولا هودج … زهرة رخصة ناضرة غريبة في هذا القفر الذي قلّ ان أنبت الزهور'.
تطول معاناة العاشقين جرّاء متابعة الام اتصالاتها ونضالاتها الخبيثة وتودّدها للوالي الاكثر صلافة من فاتك، الى أن يلوذ نصر بعدالة الخليفة معاوية الذي أعجبته شفتا سعاد ‘وقد لاحتا كأنّهما قُليَتَا على اللهب، وسحرته مقلتاها بتوقُّد صفائهما وطول ما يظللهما من أهداب، ..'. وطلب يدها خاطبا ومخاطبا'… ولن تكوني أول أعرابية تزوجتها وأنجبت'.. ولكن سعاد أبت أن ترضى بمعاوية بديلا من نصر زوجا لها. وتحقق لهما هذا الامل بعد حالات من الجنون المفتعل خلال جميع الاوقات الطويلة القاسية والصعبة.
الميزات الوصفيّة للرواية:
تمتاز الرواية بسياق لغوي تصويري دقيق لكثير من الاحداث والمشاهد المؤثّرة، ناقلة الى القارىء لحظات من الوُجدان والوَلَه، والتناغم بين الحرمان واللَّوعة وبين الشَوق والتَعلُّق عند المولّهين في الحب العذري. لا يقبّل هذان العاشقان بعضهما ويتضامّان، كما هم عليه ‘عشّاق المقاهي' في زمننا الحاضر، بل خلال تمايل طيفهما عندما تنفخ المياه صفاء صفحة مياه الغدير، ”جال نظرها فلاقى وجهه وعينيه. ونفخت ريح خفيفة في صفحة الغدير فماج الماء وارتعش فيه ظلاّ الحبيبين وتمايلا متدانيين.
وكأنّ الرعشة سرت الى نصر وسعاد فارتبكا لهذا الاضطراب الذي مسّ كيانهما، وحارا فيما يفعلان، فانفجرا ضاحكين … فلمّا أبصرت وجهها أبت الاّ ان ترى الى جانبه محيّا نصر وابتسمت له إيناسا ومداعبة. لكنّ شاة من شياهها فجأة عاثت في الماء … فوَحُل الماء، وَهَشَّت سعاد على الشاة التي فرّت واثبة'. كما أصبَحت لُحًيظَات هذا العناق أطلالا كانت تعود اليها سعاد لاسترجاع حلاوتها وحميميتها ‘ … كانت لا تفتأ تزور الغدير لتطالع فيه وجهها وتستشفّه عن وجه نصر'. وكذلك كان يفعل نصر' كان … لا ينفكّ يختلس الزيارات الى هذا الغدير'.
وكانا يتخوفان من القحط الذي سيصيب الغدير ايام الجفاف التي'ستمحو عنهما لوحة ذكرى هي أعذب الذكريات وأمرأها على القلب'.. كما يصوّر الكاتب جشع وجوع الام حين ‘ كانت يد عجوزة لا تتحرّك الاّ في طريق واحد بين اللحم المشوي وفمها المغمور أبدا دائما كأنه تجويفةُ كهف في هضبة جرداء'. أمّا تخيّل نصر للشبح القادم نحوه فكأنما هي ‘ سعاد تمسّ الارض بقدميها مسّا ناعما رقيقا كتسلّل النوم الى الأَجفان'.. إنَّها حقّا صورما حيّة تسترجع الماضي البعيد بقلم لا أحسبه سوى قلم عاشق قد انسكبت في دواخله يوما، بل أياما، واقعية حبّ عُذري دفعه الى مزج الهيام الآني مع وَلَه التاريخ السَّحيق. لا يسعني أن أدّعي أنَّ مثل هذه الصُوَر الصَّادقة، العذبة، والنقيَّة، يمكن أن تنبعث من روح لا يفيض فيها عطر الحب العذري القويّ والصادق بعذوبة ونقاء وصفاء وصدق مطلق.
مظاهر قوَّة الحبّ: ولا يسعني أيضا أن أنتهي من قراءتي لرواية ‘الحبّ أقوى' الشَّائقة من دون أن أتطرّق الى مفهوم القوة المناضلة الناعمة، الذي شخّصه الكاتب القدير في مخلوقين عاديين، لا يملكان سوى الأمل الوضّاء، والإرادة الصَّلبة، والبراءة الشفّافة التي غلبت الازدراء والشك والاغواء والاغراء، وسلطة وتسلّط اصحاب الشأن، الحكّام والمتحكمين بأمور وحياة المساكين والضعفاء والمقهورين. ويؤكّد لنا، الكاتب، أنَّ ‘من طبع الحبّ ان يتحدّى الازدراء' والدسيسة، كما في قول سعاد لامها عندما جاءت لتقنعها بالطَّلاق من زوجها : ‘أخرجي من خيمتي، ايَّتها الأفعى، والا خنقتك … ‘. والحسد والطَّمع، كما في قول نصر عنها :' تلك امرأة يا سعاد لا تحبُّ. تلك امرأة تعيش على الحسد والطَّمع الأعمى. ولا بركة على يد من لا يُحبُّ'. وقد تساءل، الكاتب مع سعاد عمّا يمكن أن تفعله المرأة عندما لا تبقى لها فرصة أخرى للتخلّص من الضَّيم والظُّلم والإسَاءَة، ‘اليس لفتاة ان تدفع عنها شرّا الا باصطناع شرّ أعظم؟'، الذي هو شرّ الجنون، عندما أرادت ان تتخلّص من تزويجها لفاتك، وبعدئذ من الوالي ابن الحكم.
الحب هو ايضا أَقوى على الدَّهاء والدَّجل وادّعاء الوالي أمام أم سعاد برفض الحرام، ‘لا عليك يا عجوزة لقد حدثني فاتك … لكني رجل لا يحب الحرام. فلو طلَّقَها بَعلها لتزوّجتها'. والحب اقوى من بذرة الشك الذي يحاول المتآمر زرعها في النفوس كقول الحارس لنصر:'… وأيَّة امرأة لا تؤثر واليا على مثلك، فخذ مالا بها، إن استطعت، واسدل عليها سترا من نسيان. وبعد، فما المرأة؟ شيء لساعة في فراش؟ لم القَ رجلا إلاّ رأى معي هذا الرأي'.
ويدافع الكاتب عن حق المرأة في تقرير المصير ومساواتها مع الرجل، عند محاولة الوالي تزويج جاريته الرومية لنصر ليتزوج سعاد: ‘كأنما النساء بهائم أو متاع يُقايض مقايضة'. الحب اقوى من ‘الحيرة التي تستبدّ بالانسان اذا واجه موقفا يجهل فيه الحقيقة'. والحبُّ أَقوى من الدنانير الذهبية التي هي'دماء استُقطرت من شرايين الرعية ..'. وليس أَدَلُّ على قوة الحب من جواب سعاد لمعاوية حول عدم قبولها الزواج منه، في نهاية الرواية: ‘هو قلبي لا يقبل. لان الحبّ عنده أقوى من قصورك وحريرك وجواهرك وجاهك'.
ويبان جليّا موقف الكاتب من رجال السلطة والفاسدين في الارض في اظهار حقيقة ما هم عليه من دناءة وخساسة، في ادعاء الوالي امام الخليفة معاوية من ان عقد زواجه من سعاد كان صُوَريّا حتى يتخلّى عنها اذا أعحبته، ‘فنظر اليه معاوية نظرة فاهمة، … تُعَرّي دخيلة النفس، ولم يُجبه بكلمة على هذا النفاق. فالسكوت عن النفاق فيما بين السَّاسَة قانون لياقة ولباقة في معظم الأَحيان ..'.
وما قول معاوية لنفسه: ‘انّما اعوزك، يا أبي سفيان، أَن تدرك أَنَّ الحبّ أَقوى من الدَّهاء، أَقوى من استغلال الخساسات الراسبة في قرارات النفوس′. سوى مسك الختام لما اراد الكاتب تبيانه في روايته حتى لا تهون على الضعفاء والمساكين استمرارية إذلالهم واستغلالهم من ‘الخساسات الراسخة' في نفوس المستبدين، وأنَّ النضال من أجل قضاياهم المحقّة ليس بالأَمر السَّهل، وعليهم تحمّل عذاباته وأَهواله ومشقّاته.
يبدو جليّا انتقاد الكاتب للشعب الخنوع الذي لا يجرؤ ان يرفع صوته وينتفض في وجه السلطة الحاكمة المستبدّة، في مشهد إذلال عَسَس السلطة لنصر: ‘ … وساقوه سَوق غَنَمَة ذليلة ..'.. إنهم يقومون بمثل هذا الإجراء السّافر عن سابق إصرار وتصميم، لبثّ الرُّعب والتوجُّس الدائم في عامّة الناس وأضعفهم شأنا. ‘ ذلك التحدّي الفاجر الذي يجيده ‘عملاء' السلطة' الغاشمة عندما لا يقاومهم الشعب ..'.. كما أن هؤلاء العملاء القساة لا يتوانون عن إلحاق أشدّ الأذى وإظهار التظلُّم وفقدان الرحمة والرأفة بالمتَّهمين ألأبرياء، إذ ‘يقومون بدور المتغطرس أمام الشعب المسكين'. إن ذلك ألمشهد المُشين الذي لا يزال يتكرّر في أيّامنا هذه، إنما هو دلالة فاضحة على ما سيلاقيه الشَّعب المستضعفُ والمقهور، ان لم يكن حبّه للتّضحية من اجل الغير، والتحرّر من الظّالم، والتخلّص من شعوره بالإنتماء الدّوني لقطيع الرعاع، أقوى من جبروت الظّالم المتظلّم وإستبداده أللامحدود.
رُؤية ذاتيًّة: ان رواية ‘الحبّ أقوى' هي خميرة للاحرار وللابطال العاشقين للوصول الى تحقيق الذات الانسانية التي تعلو فوق جميع المحسوسات والرغبات المُغرية الزائلة. خميرة لا تنزرع إلا في صدور أقوياء الارادة والعزم والنفوس الأبيّة. والحب يقوى في الصّراع المتواصل مع الظالم والمتظلّم، وليس حبّا ضعيفا لمن لا يرضى سوى البكاء على الأَطلال وقوفا، ويأبى الجلوس. كتب أديبنا الكبير عن الحبّ السامي الذي يتكامل مع الخالق في عملية الخَلق والوجود المتساوي والمتكامل لوحدانية الذات في التجسّد الأكبرللكون.
ولا بدّ في نهاية كلمتي المتواضعة هذه أن أبدي وجهة نظري حول البُعد التاريخي للرواية الذي تمنّيت لو كان نقلا للبعد التاريخي المعاصر لبيروت في أواسط القرن العشرين، التي شهدت بدايات تحرّر المرأة العربية، وإظهار قوّة الحبّ عند الأحرار، من النساء والرجال، في مواجهتهم للتقاليد البالية وحكم الإقطاع السياسي والمذهبي. أظنّ كنا شهدنا عملا روائيا سبّاقا، شبيها برواية ‘طواحين بيروت' للأديب توفيق يوسف عوّاد. ولكن في سياق تسلسل لأحداث تغلب فيها قوّة الحبّ عند العاشقين على قوة الإستغلال الرخيص للأُنثى كالذي نشهده في ‘طواحين بيروت'، خاصة وأنّ ألأستاذ ألأديب رئيف خوري قد عاش وخَبر حياة بيروت وخفاياها أكثر من السفير الأديب توفيق يوسف عوّاد. لكن علينا ألاّ ننسى أو نسهى أنّ ما كان يقضّ مضاجع وأفكار الأديب رئيف خوري كانت ‘بنات الثورة'، وليس ‘بنات الهوى'. والحبّ هو دائما أقوى عند أهل الثورة، الذين هم نبض النضال والتحرّر.
سعد نسيب عطاالله ‘ استاذ سابق في كلية الاعلام الجامعة اللبنانية [email protected]