بالرغم من أنها ذكرى ميلاده السادسة والسبعين، وبعد واحد وعشرين عاماً عن رحيله المبكر، ما زال الموسيقار الأصيل أحمد بن أحمد قاسم محتفظاً بمكانته الفنية الراقية لا يساومها تقدم زمن أو غياب جسدي. الصوت الشجي الذي خرج من كريتر، عدن القديمة، مدينة الفن والشعر، تحديداً من حافة "الشريف"، بقي ضارباً موعده في كل المناسبات الفنية رقماً يَقف الجميع أمامه إجلالاً لرائد من رواد الأغنية العدنية واليمنية بشكل عام، هو الذي رحل فجأةَ، بحادثِ مروري أليم، في حين ما كان عطاءه الفني معيناً متدفق، و ها هو ذا ما زال مدرسةَ ستظل تتلمذ فيها أجيال موسيقية، لن يكون إلا الصوت الأسر و العزف الذي يعلق في ذهن المتلقي، ليعيده دندنةَ أثناء مضيه في طريق مقفر صباح مساء.
لست في معرض الحديث عن أحمد قاسم فنياً، فقد تحدث عنه الكثير، و للحقيقة أنهم لم ينصفوه ولم يعملوا على إبرازه وإعطائه المكانة والتقدير اللائقين به، ولست ألم بالجوانب الفنية المعقدة . أنا هنا أتحدث عن أحمد قاسم الفنان الإنسان الذي يغني بكل اللهجات والألوان، والذي يحتفي بالإنسان الريفي والمدني .وها هم العمال والفلاحين لا يكفون عن ترديد أهزوجة "والله ما أروح، إلا قا هو ليل"، تلك التي أطربها في ريعان شبابه، و التي ستبقى أهزوجةً ممزوجة بالعرقِ وبتراب الأرض.
غنى الأغنية الريفية بسهولتها، وأطرب نوعاً مزيجاً من الأغنية كأغنية "يا عيباه" أو ، هذا النوع من الطرب إبتدعه أحمد قاسم بفضل دراسته الفنية في مصر ومزجه اللحن المصري بالكلمات العدنية أو العكس، ليشكل حالةَ فريدة من الفن، لربما إنها قوبلت بتجاهل النقاد.
لحن الضحكة لأجل أن تُغنى، هكذا جاء فيما قرأته عن أحمد قاسم، حيث أنه وفي أغنية "المزهر الحزين" إستعمل و لإول مرة اللحن الخطابي، والذي يدخل فيه تلحين الضحكة، فلقد وضع لها مقاماً خاصاً، هكذا لحن الضحكة، ولحن الإبتسامة .. أجمل حالة يخرج فيها الإنسان إنسانيته ...هكذا غنى لإجل الإنسان فغنى للوطن، "من كل قلبي أحبك ... يا بلادي / وأفديك بروحي ودمي ... وأولادي"، أخرج كل مكنونه الفني لإجل الإنسان، لعشقه لكدحه لعرقه لوطنه ..
عدن هي من أنجبت أحمد بن أحمد قاسم، وهي التي أنجبت ذلك الجيل الفني الذي لن يتكرر، هي ولليوم تلقت الويلات جراء نشاطها المدني الممتد لعقود، حين عاقبتها القوى الرجعية والقبلية في إجتياح 94 كانت غايتها تدمير هذا الإرث الثقافي والمدني، وهتك قواعد التعايش السلمي، وحرق فكرة الإنتماء للإنسان اليمني البسيط التي بزغ نجمها من هذه المدينة.
تلك القوى المتطرفة ،التي كفرت حق المواطنة، تسعى فيما تسعى إليه أن تجعل عدن ساحة للفكر القبلي والديني المتطرف فأحرقت المسارح الفنية و نهبت إرشيف تلفزيون عدن بل وسلبت قدسية المساجد والأضرحة.لكنها، ومؤمن بذلك، لم و لن تنجح في تحويل عدن إلى ما ترنو إليها مخيلتهم، فعدن ستظل عدن، وستبقى مدينة الإنسان، ما دامت تغرد في رباها أصوات أحمد قاسم و المرشدي ومحمد سعد عبدالله والعزاني والزيدي وكوكبة كبيرة غيرهم .