مؤخراً وقعت في يدي من صديقي الأثير شائف عبدالله سعد، صورةٌ مع زملاء الطفولة / مدرسة الضالع... كنّا صغار ذلك الزمان قبل ان نعي كيف يتحرك كل شيء من حولنا وقبل ان تتحول الارض الى مدرج للإقلاع نحو الغموض العسير.الضالع، ان شئْتَ، مدينة مهملة وهي بكل قراها المتناثرة خلف التلال وفوق الجبال المحيطة، نافذة ترزح تحت خط ساخن بين شمال الأخوة وجنوبهم. كانت في زمن ما موطن المطر الصيفي والشتوي ومدينة الفراشات البيضاء، ونسمات الفراديس المقتربة رويداً من جغرافيا البدايات الطازجة، وموئل للصدق والبراءة، وقبل كل شيء، لا تدانيها ارض من حيث جمالها الريفي الندي الأخضر .للطفولة أمكنةٌ وللروح آهاتٌ وللذكرى موعدٌ على مقربة من سكينةٍ بالكاد نأخذها غلابا...
الضالع قوسُ قُزَح كبير يتدلى من سماوات المزْن ويلامس هامات التلاميذ الصغيرة وسواعد الفلاحين السمراء وحاملات الجرار؛ يعُدْنَ للتو من مصبٍّ لرقراقٍ صغير يتقاذف ماء السماء الذي انهمر على وقع الرعد الجبلي العفوي الصاخب، والبرق الذي كاد ينتزع أحشاء الكون وينثرها فوق العالمين ، وزرقته اللامعة في عيون الدّنا، كأنها أول زرقةٍ أنجبها الكون للتو .
الضالع من عنابر الحنين تنبلج أمامي في صورة الصغار، ومن أحدهم الذي كنته يوما ما، اكثر إشراقاً... وبيَدٍ مرتعشة أتلمَّس وجوه الزملاء: مَن رحل قبل أوانه وطواه النسيان، ومن لفّه الغياب وتوارى، ومن نسي كل شيء وترجّل او ابتعد عن البصر، ومن يجيد مهنة البقاء ... جيل تفتَّت في الأزمنة وفي رحلة تراكمت أكواماً من الشظايا.
كانت الضالع اطرافاً وكان عليها ان تحمي أنفاسها من لفحة البواريد ، وكان للضالع جند وكان عليهم ان يقتسموا الأخوَّة في المذبحة، واصبحت الضالع وسطاً وعليها ان ترسم خطاً بين الألوان او تموت دونه .. حاضرة غائبة في تناوب غير متَّسق، وللحضور والغياب فلسفة لا يدركها البسطاء . الضالع مدينة المطر لكن الأشجار لم تعد تنبت فيها الان، ولا الظلال تستجلبها الظَّهيرة لتحمي صغار الورد فيها من لفحة الشموس الحارقة .
كان الانجليزي الغريب يشارك عرب الجبال هنا نسمات المطر والتطلع الى قوس قزح بفرح وبهجة، وكأنه يحس بأنَّ مطرَ العالم الثالث أنشودةٌ يأتي بها ملكوت بعيد للوجوه السمراء الفقيرة وللزرع الأخضر النظير.. كان مستعمراً محيّراً جداً، لا احد يملك حينها تعريف كامل ؛ لهيئته، لتملّقه او صدقه، لحبّه او عدائه.. فذهب ورمينيا خلفه اقداحاً من الخُطَب والقصائد العصماء ... وبعده مرَّ عمرٌ يليه آخر، تداخلت عنده الجبال وتوحدت الرصاص وانتشرت اسماء الله الحسنى على المساجد والبيوت والطرقات والمتاجر ... لكن قوس قزح انتحر، وطوى البرق امتداداته من فوق الفلوات وتبخرت شجيرات الأودية واحترقت الطفولة وصمت الرقراق وانطمرت النسوة العطشى تحت ركام الظلام الدامس... وتحولت اغاني المطر الى زعيق القاذفات، والشجيرات تبدلت جنداً من وحوش البراري شديدي القتل والضغينة، واستُبدلت الأودية بالمتاريس والنشيد بالنفير .
لا زالت الصورة أمامي نابضة بالوجوه الصغيرة الراحلة المترجّلة الحاضرة الجميلة، والدّنا تقهقرت خلف مواويل الحقول البعيدة، ولا زالت الضالع تمارس نزيفها بثبات وصبر ، ومعها كل الارض المحيطة تنتظر البروق الزرقاء وصوت الرعد وزخات المطر. لكل وجه في هذه الصورة ألف قبلة ... وسلام عليهم احياءاً وراحلين.