"الحقيقة الوحيدة الثابتة هو أنه لا شيء أكيد أو غير قابل للتغيير". (جون كنيدي) التسامح الديني والمذهبي أحد الأعمدة الرئيسية للدولة المدنية, ولا دولة مدنية يمكن أن تتأسس على قاعدة غلبة دين أو مذهب أو أيديولوجيا ما على حساب غيرها, ولذلك فإن وضع الغلبة هذا يستدعي نقائضها بالمثول, ونجد أنفسنا ندور في ثنائية مانوية في المجالين السياسي والديني أو المذهبي, ولعل حضور الثنائية هو نقض وضيق بالتعدد والتنوع باعتبارهما مبادئ رئيسية وركائز محورية للنظم الحديثة, النظم ذات الطابع المديني.
والأخذ بطرائق المنطق الثنائي وتكريسه ثقافياً اليوم يعد انتحاراً عقلياً, لأنه أضحى منطق متهافت تاريخيا إذا لم يتم استيعاب تطور طرائق التفكير الجديدة ووضعها في الحسبان, حيث أضحى هذا المنطق عند غيرنا جزءاً من منطق أعم وأشمل , بينما في ثقافتنا لا زلنا مسكونين بهذا المنطق و لم نبارح عتباته, إن من يتجاهل المنطق أو يحاول أن ينفي دوره أو يلغيه بالفتوى أو بالإهمال حسن النية, فإنه يحكم على العقل بالموات والاندثار.
وإذا استعرضنا المنطق الثنائي بين ثقافتين, فهناك فرق مائز بينهما, إذ أن ثنائية تفكيرنا هدامة, في حين ثنائية تفكير غيرنا بناءة, لأن رحى ثنائية تفكيرنا تدور في إطار يختلف عن ثنائية شهدها منطق تفكير الأخرين, عند سوانا جاءت الثنائية بمنطق مفاضلة تفضي إلى غلبة بين خيارات المحاسن, أما منطق تفكيرنا هو منطق مساوئة إذا جاز لنا التعبير , أي ثنائية الخيارات أو الاختيار بين قيمتين؛ الاختيار بين مساوئ , ولذا فإننا نشهد ذلك التندر والترحم على محاسن الماضي, حتى ولو كان سيئاً, إذ ننسى في زخم مساوئ اليوم مساوئ الأمس, حيث يغدو ماضينا جميلاً بالنظر إلى مساوئ يومنا, وعلى قاعدة قياس أفضل المساوئ أو أفضل السيئين.
ولا يمكننا أن نفهم سعار المذهبية والدين في حياتنا إلاّ ضمن هذا السياق, فكل استقطاب مذهبي يهدف إلى خدمة السياسة, كما تهدف إلى جعل الدين والسياسة معاً يدوران مع الحاكم كلما دار كما تفعل زهرة عباد الشمس (د. ابوبكر السقاف), أي أنهما إلغاء للثنائية إلى ما هو أسوأ. ومنطق التفكير هذا مسئول عن تجريف السياسة من كل أبعادها الاخلاقية, ولا يمكن أن نعزوه إلى منطق التفكير ثنائي القيم ( منطق إما....أو), بل إليه وقد تحول من منطق مفاضلة بين محاسن إلى منطق مساوئة (أي اختيار بين مساوئ) , منطق أرخى بكلكله على ثقافتنا .
ولا يمكن أن نغادر هذا النوع من منطق التفكير( منطق إما...أو) إلاّ بالانفتاح على منطق تفكير يستوعب تعدد القيم وتنوعها واقعاً, ومبارحة ثنائية القيّم باتجاه الإقرار بتعددها؛ هذا هو نمط التفكير الجديد الذي يحكم العقلانية المعاصرة . وللتوضيح نأخذ هذه الأمثلة: لقد جاء حديث حاجة البلد إلى حزبين فقط بعيد الوحدة وأثناء الفترة الانتقالية وسجالات توحيد المؤتمر والاشتراكي في هذا السياق, لكنه سياق إلغائي وإقصائي للثنائية أيضاً. منطق تفكيرنا الثنائي لا يعمل ضمن سياق المفاضلة, بل ضمن سياق المساوئة كما أسلفنا الذي يفضي في نهاية المطاف إلى تدمير هذا الأسلوب, على العكس في الثقافات الأخرى جرى تجاوزه لصالح إبداع منطق جديد ألغى شمولية المنطق الثنائي ؛ فلقد أضحى جزءاً من منطق أعم, منطق تعدد وتنوع القيّم وأخذت تظهر خيارات حكم متعددة. السؤال لماذا لا تفضي بنا ثنائية صراع المذهب المقيتة( سني شيعي)و(إصلاحي حوثي) إلى البحث عن قيمة ثالثة تتجاوز الأطاريح الاستقطابية الماثلة , قيمة لا تجعلنا نقع أسرى لخيارين سيئين . وهذا ينطبق على كل الثنائيات السيئة (داعش ونظام الأسد), كما ينطبق على (العمالة ل "س" والعمالة ل "ن") . أظن أن الخلل الماثل في طرائق التفكير والحكم منطقي في المحصلة الأخيرة, ويكمن في منطق التفكير الذي ألفه الناس في أحكامهم العقلية, أي بقاءهم في أحكامهم ضمن منطق ( إما ...أو ) يعني منطق المفاضلة بين قيمتين , وهو منطق قد تجاوزه العالم كله وصار التفكير نتاج عقلانية جديدة تقوم على تعدد قيمي, أي صار العقل مفتوح على تعدد قيّم لا حصر لها. استاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عدن